قالت الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان المتضمنة لجنة الوقاية من التعذيب ان العملية العسكرية الإسرائيلية الرامية إلى احداث منطقة عازلة على طول الحدود في جنوب لبنان، وبمسافة تقدر بحوالي 5 كلم من الخط الأزرق، تشكل جريمة حرب تتمثل في التدمير غير المبرر والممنهج للمساكن المدنية والاعيان العامة.
دمرّ الجيش الإسرائيلي، مستخدماً الغارات الجوية والجرافات والتفجيرات المتحكم فيها يدوياً، المباني المدنية بشكل غير قانوني وسوّى أحياءً كاملة بالأرض، بكل ما فيها من منازل ومدارس ومساجد وكنائس ومزارات ومواقع اثرية، اضافة إلى تجريف الاراضي الزراعية وشبكات المياه ومحطات تحويل الطاقة ومحطات الطاقة الشمسية والابار الارتوازية.
ومن خلال تحليل صور الأقمار الصناعية ومقاطع الفيديو التي نشرها الجنود الإسرائيليون على وسائل التواصل الاجتماعي خلال الفترة بين أكتوبر/تشرين الأول 2023 وأكتوبر/تشرين الأول 2024، تمكن فرق رصد انتهاكات القانون الدولي الانساني في الهيئة بالتعاون مع عدد من الخبراء من تحديد عدد من المواقع التي تعرضت لتدمير غير مبرر والممنهج في ثمان قرى لبنانية على الأقل. وفي بعض مقاطع الفيديو، يظهر الجنود الإسرائيليون وهم يتهيؤون لالتقاط الصور احتفالًا بالتدمير بينما تُهدم المباني في الخلفية.
وقال علي يوسف، مفوض الشكاوى في الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان: “تعتبر الحملة المستمرة للتدمير التي ينفذها الجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان جريمة حرب، حيث كشفت الأبحاث والتقارير الإعلامية وتقارير العديد من مراكز البحوث التقنية، إلى جانب مقاطع الفيديو، عن قيام القوات الإسرائيلية بإزالة المباني السكنية بشكل كامل، في خطوة تهدف إلى جعل مناطق واسعة غير قابلة للسكن.
“تشير اعمال الرصد التي أجرتها الهيئة إلى نمط مستمر على طول الخط الأزرق، يتماشى مع عملية تدمير منهجية لقرى بأكملها. فالدمار الذي لحق بالمنازل والاعيان العامة لم يكن نتيجة لمعارك عنيفة، بل نتيجة لتعمد الجيش الإسرائيلي تدمير مناطق اغلبها تقع على تلال مشرفة بعد فرض سيطرته عليها”.
وقد اعترف المسؤولون الإسرائيليون بتدمير المنشآت على طول الخط الازرق باعتباره إجراءً أمنياً من أجل حماية المستوطنين لإسرائيليين اتخذ رداً على الهجمات التي شنها حزب الله، منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، وبرر الجيش الإسرائيلي عمليات الهدم منذ اعلانه بدء تنفيذ هجوم بري في جنوب لبنان بقوله إنه يقوم بتدمير أنفاق ومواقع عسكرية لحزب الله.
وفي ثمان قرى شملتها تحقيقات الهيئة الوطنية لحقوق الانسان، هي يارون ومارون الراس وعيتا الشعب ومحيبيب وكفركلا والعديسة وحولا وعيترون، نفِّذت عمليات التدمير بعد أن أصبحت تلك المناطق خاضعة للسيطرة العملياتية للجيش الإسرائيلي من خلال التقدم البري والغارات التي نفذها سلاح الجو والطائرات من دون طيار والدرون ومن خلال القصف المدفعي، الأمر الذي يعني أنها لم تنجم عن قتال مباشر بين الجيش الإسرائيلي وحزب الله. وفي هذه الأجزاء من جنوب لبنان، هُدمت المنشآت بصورة متعمدة وممنهجة.
دمرت القوات الإسرائيلية معظم قرية محيبيب في 16 تشرين الاول/ اكتوبر الجاري من خلال سلسلة من الانفجارات، وفقاً لمقاطع فيديو تم التحقق منها وصور الأقمار الصناعية التي نشرتها عدة صحف بينها صحيفة نيويورك تايمز الاميركية. تم هدم حوالي عشرين مبنى في محيبيب، التي تبعد حوالي كلم ونصف عن الخط الازرق. في مقطع فيديو تم تصويره من مسافة بعيدة وانتشر بشكل واسع على الإنترنت، يظهر جنود يرتدون زيًا عسكريًا إسرائيليًا وهم يبدون ردود أفعال مليئة بالتعجب باللغة العبرية أثناء مشاهدتهم للمباني وهي تنفجر في وقت واحد. لم يكن من الممكن تحديد مصدر هذا الفيديو. لكنه يصور نفس عملية الهدم التي ظهرت في فيديو آخر نُشر من قبل محطة إذاعية إسرائيلية، حيث يظهر فيه جنود إسرائيليون وهم يشيرون بعلامات الإعجاب أثناء مشاهدتهم لتدمير المباني على شاشة جهاز تحكم الطائرة المسيرة. وتظهر صور الأقمار الصناعية للقرية التي تم التقاطها قبل وبعد التفجيرات أن بضعة مبان فقط بقيت قائمة بعد العملية الإسرائيلية، التي قال بيان الجيش إنها نفذتها الفرقة 91. ومن بين المباني التي يبدو أنها لا تزال قائمة مزار النبي بنيامين ابن النبي يعقوب، ويعود تاريخه إلى أكثر من 2000 عام، وهو مزار ديني ومقام تراثي وتاريخي في جبل عامل. ولم يكن من الممكن تحديد ما إذا كان المزار قد تعرض للضرر من الصور.
تظهر آثار الدبابات التي تعبر الحدود إلى قرية يارون في صور التقطتها الأقمار الصناعية بتاريخ 5 تشرين الأول 2024 من قبل شركة Planet Labs، وهي شركة تجارية تقدم خدمات الأقمار الصناعية. كما تظهر ضفاف ترابية تم إنشاؤها حديثًا حيث أقام الجيش الإسرائيلي مواقع للدبابات والمركبات العسكرية الأخرى.
وعلى مدار أسبوع كامل قام الجيش الإسرائيلي بتسوية أجزاء كبيرة من قريتي مارون الراس ويارون، والتي تظهر في فيديو صوره الجيش الإسرائيلي. وأظهرت مقاطع فيديو وصور جنوداً إسرائيليين يقومون بدوريات في الشوارع ويقيمون مواقع على طول المنازل. وأظهر أحد مقاطع الفيديو جنوداً يرفعون العلم الإسرائيلي فوق حديقة مدمرة في مارون الراس.
وغادر معظم سكان القرى الحدودية منازلهم منذ اندلاع المواجهات في تشرين الاول 2023. وقبل بدء العملية البرية التي تنفذها قوات الاحتلال الإسرائيلي، أدت الضربات الصاروخية طيلة عام كامل إلى إلحاق أضرار بقرية يارون، كما تظهر صور الأقمار الصناعية من الصيف. ولكن صور الأقمار الصناعية الجديدة تظهر دمارًا جديدًا منذ بدء العملية البرية، حيث تم تدمير جزء كامل من يارون بعد أن قامت المركبات العسكرية الإسرائيلية بتدمير المنطقة.
وفي الأسبوع الأول من الشهر الجاري الذي شهد قصفاً عنيفاً وغارات كثيفة وعمليات برية ترافقت مع نسف مباني وتجريف أراضي وتدمير اعيان مدنية، أصبح من الواضح أن المباني المدمرة أكثر مما كان من قبل. ويبدو أن مساحات كبيرة من الأرض قد احترقت أيضاً في مارون وعيتا الشعب.
ويمكن رؤية مشاهد مماثلة للدمار، بما في ذلك المباني التي سويت بالأرض حديثاً ومنطقة مدمرة، في قرية مارون الراس المجاورة، حيث كانت المركبات العسكرية الإسرائيلية مرئية أيضاً. وبدا أن المزيد من المباني قد هُدمت حديثاً، كما سُوي جزء من القرية بالأرض. ومن بين المناطق التي سُويت بالأرض “حديقة إيران” التي تضم مسجداً يتماثل في التصميم مع المسجد الأقصى المبارك في القدس.
ويظهر مقطع فيديو تم تداوله على وسائل التواصل الاجتماعي ما يبدو أنه انفجار متحكم فيه دمر مسجدًا اثرياً داخل قرية يارون يعود تاريخ بناءه الى أكثر من 300 عام وهو المسجد الرئيسي الذي تقام فيه الصلوات اليومية، ويحتفل فيه بالأعياد والمناسبات الدينية. كما أظهرت صور الأقمار الصناعية أن مسجدين آخرين دُمرا مؤخراً في مارون الراس. كما دُمر كنيسة للطائفة الكاثوليكية في يارون، إلى جانب عيادة صحية ومقام الخضر الذي يقدسه المسلمون والمسيحيون. وأظهرت صور الأقمار الصناعية أن قسماً كبيراً من سقف الكنيسة الكاثوليكية انهار. ويعتقد ان اعمال التجريف التي قامت بها قوات الاحتلال الإسرائيلي في يارون قد طالت موقعاً اثرياً في تلة عارة القريبة من السياج الحدودي.
ويظهر مقطع فيديو تم تداوله على وسائل التواصل الاجتماعي، بتاريخ 28 تشرين الأول 2024 ما يبدو أنه انفجار متحكم فيه فجّر الجيش الإسرائيلي منازل في بلدة عيترون جنوبي لبنان، وهو ما يثبت ان اعمال التدمير غير المبرر والممنهج تستند الى خطة محكمة تنفذها فرق الجيش الإسرائيلي بقدر ما تتوسع في المساحة التي تسيطر عليها برياً بمعزل اذا ما استقرت فيها او انسحبت على وقع ضربات المقاومين.
يضع القانون الدولي الإنساني قيوداً صارمة على تدمير ممتلكات العدو في النزاعات المسلحة. فلا يُسمح بذلك إلا في حالة الضرورة العسكرية القصوى، كما يمنع استهداف المنشآت المدنية بشكل مباشر. يُتيح مفهوم الضرورة العسكرية للمتحاربين اتخاذ إجراءات ضرورية لإضعاف قدرات عدوهم العسكرية، شرط أن تكون هذه الإجراءات متوافقة مع القانون الدولي الإنساني. ويُستثنى من حظر تدمير الممتلكات الحالات التي تفرضها الضرورة العسكرية القصوى، بشرط أن يخدم التدمير هدفاً عسكرياً مشروعاً ويراعي مبدأ التناسب. فمثلاً، يُعد مشروعاً تدمير موقع يستخدمه العدو كنقطة لإطلاق النار خلال المعارك المباشرة. لكن هذا لا ينطبق على ما حدث في القرى اللبنانية الثماني، حيث كانت تحت السيطرة الإسرائيلية وقت عمليات الهدم بانفجار متحكم فيه او خضعت لقصف جوي كثيف دون ان يكون هناك هدف عسكري. وحتى لو كان هناك هدف عسكري مشروع، فإن حجم وأسلوب التدمير يجب أن يكونا متناسبين مع الهدف ومتوافقين مع قوانين الاحتلال العسكري.
تكرر الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان المتضمنة لجنة الوقاية من التعذيب طلبها إلى المفوض السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، الدعوة إلى انعقاد دورة استثنائية لمجلس حقوق الإنسان بشأن الحالة الخطيرة لحقوق الإنسان في لبنان على أن يعتمد هذا المجلس يعتمد قراراً ينشئ على وجه السرعة لجنة تحقيق دولية مستقلة مستمرة للتحقيق داخل لبنان في جميع الانتهاكات للقانون الدولي الإنساني وجميع الانتهاكات والتجاوزات للقانون الدولي لحقوق الإنسان التي سبقت 22 أيلول/سبتمبر 2024 ووقعت منذ هذا التاريخ.
كما تكرر الهيئة دعوتها إلى الحكومة اللبنانية اتخاذ قرار عاجل حول دور المحكمة الجنائية الدولية من خلال تكليف وزارة الخارجية على وجه السرعة بتقديم إعلان إلى مسجل المحكمة الجنائية الدولية بقبول اختصاص المحكمة بالتحقيق والملاحقة القضائية في الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة على الأراضي اللبنانية منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، 2023.
وجهت الهيئة دعوات عاجلة للإجراءات الخاصة التابعة لمجلس حقوق الإنسان لتشكيل وفد من عدة مقررين خاصين لزيارة لبنان بهدف إجراء تحقيق حول انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الإنساني التي ارتكبت جراء العدوان الاسرائيلي على لبنان. على نقترح أن يشمل الوفد: المقرر الخاص المعني بتعزيز وحماية الحق في حرية الرأي والتعبير بالدفاع عن سلامة الصحفيين، المقرر الخاص المعني بالفقر المدقع وحقوق الإنسان، المقرر الخاص المعني بحالات الإعدام خارج القضاء أو بإجراءات موجزة أو تعسفاً، المقرر الخاص المعني بحق كل إنسان في التمتع بأعلى مستوى ممكن من الصحة البدنية والعقلية، الممثل الخاص للأمين العام المعني بحقوق الإنسان للمشردين داخلياً، المقرر الخاص المعني بالسكن اللائق كعنصر من عناصر الحق في مستوى معيشي مناسب، المقرر الخاص المعني بالحق في الغذاء، المقرر الخاص المعني بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، والمقرر الخاص المعني بالآثار المترتبة في مجال حقوق الإنسان على إدارة المواد والنفايات الخطرة والتخلص منها بطريقة سليمة بيئياً. وأملت الهيئة أن يتمكن الوفد من زيارة الأماكن المتأثرة بالانتهاكات، وجمع الشهادات من الضحايا، والتفاعل مع الجهات المعنية في لبنان لضمان حماية حقوق الإنسان. واكدت استعدادها للتعاون الكامل مع وفد المقررين الخاصين وتقديم كل ما يلزم لضمان نجاح هذه الزيارات.
خلفية
ينطبق القانون الدولي الإنساني على حالات النزاع المسلح، بما في ذلك أثناء الاحتلال العسكري، ويتألف من قواعد تسعى إلى التقليل من المعاناة الإنسانية أثناء النزاع المسلح لأقصى حد ممكن.
وتُعد اتفاقيات جنيف الأربع لسنة 1949، والبروتوكولان الإضافيان الملحقان بها لسنة 1977، الصكوك الرئيسية للقانون الدولي الإنساني. وتُعد الكثير من قواعد هذه المعاهدات جزءًا من القانون الدولي العرفي، أي أنها ملزمة لكافة الأطراف في أي نزاع مسلح، سواء صادقت على معاهدات بعينها أو لم تصادق، وسواء كانت قوات تابعة لدولة ما أم جماعة مسلحة من غير الدول.
ووفقًا لهذا المعيار العرفي، “يُحظر تدمير ممتلكات العدو أو الاستيلاء عليها ما لم يكن هذا التدمير أو الاستيلاء مما تحتمه ضرورات الحرب”. وفضلًا عن ذلك، فوفقًا للمادة 53 من اتفاقية جنيف الرابعة، التي تخضع لها أفعال إسرائيل باعتبارها دولة الاحتلال في غزة: “یحظر على دولة الاحتلال أن تدمر أي ممتلكات خاصة ثابتة أو منقولة تتعلق بأفراد، أو جماعات، أو بالدولة أو السلطات العامة، أو المنظمات الاجتماعية أو التعاونية، إلا إذا كانت العمليات الحربية تقتضي حتمًا هذا التدمير”.
أما المادة 147 من اتفاقية جنيف الرابعة، فتنص على أن “تدمير واغتصاب الممتلكات على نحو لا تبرره ضرورات حربية وعلى نطاق كبير بطريقة غير مشروعة وتعسفية” هو انتهاك جسيم للاتفاقية، ومن هنا يعد جريمة حرب.
وحيثما ينفذ هذا التدمير على سبيل العقاب الجماعي، فإنه يشكل انتهاكًا للمادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تنص على أنه: “لا يجوز معاقبة أي شخص محمي عن مخالفة لم يقترفها هو شخصيًا. تحظر العقوبات الجماعية وبالمثل جميع تدابير التهديد أو الترهيب”.
كذلك فإن الممتلكات المدنية تحظى بالحماية أثناء النزاع المسلح بموجب مبدأ التمييز الذي يقتضي من أطراف النزاع التمييز في جميع الأوقات بين “الأعيان المدنية” و”الأهداف العسكرية”، والاقتصار في هجماتها على الأهداف العسكرية على سبيل الحصر. ووفقًا للقانون الدولي الإنساني العرفي، فإن الأعيان المدنية هي كافة الأعيان التي ليست “أهدافًا عسكرية”؛ و”تنحصر الأهداف العسكرية فيما يتعلق بالأعيان على تلك التي تسهم مساهمة فعالة في العمل العسكري سواء كان ذلك بطبيعتها أم بموقعها أم بغايتها أم باستخدامها، والتي يحقق تدميرها التام أو الجزئي أو الاستيلاء عليها أو تعطيلها في الظروف السائدة حينذاك ميزة عسكرية أكيدة”. وتتمتع الأعيان المدنية بالحماية من أي هجوم ما لم تصبح أهدافًا عسكرية، وطوال الوقت الذي تظل فيه كذلك، عندما تكون جميع معايير الهدف العسكري مستوفاة بصورة مؤقتة؛ ويقتضي البروتوكول الأول من أطراف النزاع أن تفترض في حالات الشك أن المنشأة تحتفظ بطبيعتها المدنية. وشن هجمات على أعيان مدنية عمدًا هو جريمة حرب.