بقلم د : شيرين العدوي
جلس حالما يكتب سيمفونيته، تبدو عليه علامات الحلم الجميل، اغرورقت عيناه بالدموع، اعتصره الألم، سحب مروحته وراح يتأملها، رفعها لأعلى حتى طاولت القمر، احتضنها بشوق عبر عنه بذرات كيانه. تتشتت الموسيقى، وتبعثرت الحبيبة مع ذرات القمر. فلم يكن الأمر إلا خيالا، ولم تكن الحبيبة إلا محض سراب، ليجلس جاثيا على ركبتيه منهزما وينتهى المشهد.كان المسرح مظلما إلا من ضوء القمر الملقى على وجهه، مسلط عليه يتحرك معه، حتى توحد الجمهور معه فأصبحوا جزءا من مروحته، وتفاصيل جسده، وموسيقى بيتهوفين سوناتا ضوء القمر. إنه رانكو فوجيما مقدما فن نيهونبويو التقليدى «فن الرقص اليابانى العريق».
هذا الفن يعد نافذة على عالم التراث اليابانى، حيث تمتزج الحركات الفنية الراقية، بالرمزية العميقة والموسيقى التقليدية، مما يجعل الحضور ينساب فى رحلة بصرية غنية بالمعانى. يستخدم فيه الراقص المروحة المصقولة من أسفل بقطعة رصاص تجعلها ثابتة فى لحظات التعبير بها أو رميها فى الهواء والتقاطها، إنها الأداة الأساسية والأكثر تأثيرا فى هذا الفن، فيعبر بها عن البحر بحركة أمواجه، وارتداء قبعة القش برفعها أعلى الرأس، أو بعصا يتوكأ عليها. وكانت فى هذا التابلوه الورقة التى يدون عليها بيتهوفن سوناتا ضوء القمر الذى ذكره بالحبيبة، فالحبيبة نفسها المتخيلة. هذا التابلوه الراقص كان من تصميم فوجيما نفسه ممثلا دور بيتهوفن لحظة تأليفه تلك المقطوعة الموسيقية. الحفل، الذى تميز بالأصالة والإبداع، حمل طابعًا خاصًا بفضل الأداء المذهل لرانكو فوجيما الذى يعد واحدًا من أبرز الممثلين لهذا الفن الراقى. هذا الحدث الذى نظمته مؤسسة اليابان بالقاهرة برئاسة الدكتورة أيومى هشيموتو صاحبة الفضل بنشر الثقافة اليابانية، وإظهار جمالها للشعب المصرى فى كل مكان ثقافى فى مصر، وأيضا بالجامعات المصرية النائية. إنها توطد أواصر الحب باستقبالها الحافل لكل مصرى، وكأنه صاحب البيت وجزء من اليابان. أما رانكو فوجيما، الذى ترك دموع الجمهور ساخنة بأدائه المبهر للوحة ضوء القمر فهو اسم لامع فى عالم نيهونبويو، ينتمى لعائلة عريقة منذ عصر إيدو (1603- 1868) حيث وُلد وترعرع فى وسط أسرة فنية كانت أساس هذا الفن. فتعلم على يد جدته فوجيكو فوجيما ووالدته رانكيه التى تعدها اليابان كنزا وطنيا حيا. وقد جعلت منه أحد أهم رواد الرقص اليابانى التقليدي. وهو ما أتاح له تجسيد قصص التاريخ اليابانى وأساطيره بحرفية استثنائية. كما أنه معروف بتأليفه وتصميمه عروضًا حول العالم، يسهم من خلالها فى نشر الثقافة اليابانية للجمهور العالمي. فى حفلته بمصر قدم مجموعة من التبلوهات الراقصة التى جسدت قصصًا من التراث اليابانى. من بينها لوحة «الفراشة» التى بهرت الحضور بحركاتها الرشيقة والمعبرة، صور فيها رحلة فراشة تبحث عن الحرية والجمال فى آن واحد. كما قدم عرضًا ملحميًا بعنوان «ساموراى الظل»، الذى استعرض من خلاله الصراع الداخلى للساموراى فى معركة نفسية بين الواجب الشخصى والولاء للسيد، وهى لوحة تألقت بالدمج بين القوة والهدوء. انتهى الحفل بانحناءة تقترب من السجود من سفير اليابان للفنان. فالفن هو جوهرالأمان الحى والعدل فى زمن الحروب والقهر.