في ظلال طوفان الأقصى “93”
الردُ الفلسطيني الفاعل على قرارِ الكنيست الإسرائيلي الباطل
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
لم يكن قرارهم صادماً للفلسطينيين ولا مفاجئاً لهم، ولم يشكل تطوراً سلبياً أو إشارةً غير إيجابية، ولم يعرض المشروع الفلسطيني العتيد للخطر أو يجهض حلمهم بالمستقبل، ولا يرى عموم الفلسطينيين أن له قيمة أو أثراً، فهو قرار سلطة احتلالٍ لا يختلف عن غيره من القرارات العسكرية والقوانين غير الشرعية التي اعتاد إصدارها، وقد كانوا يتوقعونه من كنيستٍ تحكمه أغلبية متطرفة، وتقوده مجموعاتٌ يمينيةٌ متشددة، ويطغى عليه غلاةُ المستوطنين والضالون باسم الدين، ويسيره رئيسُ حكومةٍ يرتبط مصيره به، وينعقد أمله في استمرار دورته وتأييده له، لئلا يحجب الثقة عنه ويسقطه وحكومته.
وهو قرارٌ لا يعنيهم أصلاً ولا يلقون له بالاً، إذ لا يؤثر على حقهم، ولا يبدل قناعاتهم، ولا يفرض نفسه على تطلعاتهم، ولا يستطيع أن يغير سنن الكون ولا جدليات التاريخ، ولا يظن المتطرفون المستعلون، المتشددون المغرورون، الثائرون كالثيران، والمتخبطون كالسكارى، أنهم يستطيعون شطب التاريخ، والانقلاب على سننه، وفرض خرافاتهم عليه، وإجبار العالم على القبول بهم والاستسلام لهم.
فالفلسطينيون هم أصحاب الأرض وأهل البلاد الأصليين والتاريخ على حقهم يشهد، وهم اليوم يفرضون بالمقاومة والصمود واقعهم، ويثبتون أنفسهم، ويصرون على حقهم، ولن تقوى جهةٌ أياً كانت قوتها على تجريدهم من حلمهم، أو حرمانهم من حقهم، ومنعهم من استعادة وطنهم وتأسيس دولتهم الحرة المستقلة، على كامل ترابهم الوطني، وعودة أهلها إليها من شتاتهم ومخيمات لجوئهم.
لكن عدم الاكتراث بالقرار لا يكفي، والاستهزاء به لا ينفع، والاستخفاف به لا يفيد، والادعاء بأنه لا يغير الواقع ولا يبدل الحقائق قد يضر بنا، ويوقعنا في دائرة الغرور التي تسقط صاحبها وتودي به، وإنما الذي يفيد وينفع أن نواجه القرار الإسرائيلي غير الشرعي، بقراراتٍ وطنيةٍ فلسطينيةٍ، تعبر عن إرادة الشعب الفلسطيني كله، وتحفظ حقوقه، وتصون أمانته، ولا تفرط في حقوق أجياله ولا في إرث أجداده، وتؤسس لمستقبل الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه، فهو يستحق بما قدم، ويستأهل بما ضحى أن يستعيد وطنه، ويسترجع حقوقه، ويعوض شعبه عما أصابه ولحق به.
لعل المطلوب اليوم أكثر من أي يومٍ مضى، من قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، التي تدعي أنها الوطن المعنوي للشعب الفلسطيني، وأنها تمثل الفلسطينيين جميعاً بكل فئاتهم وانتماءاتهم وطوائفهم، أن ترد على قرار الكنيست الإسرائيلي، الذي هو أعلى هيئة تشريعية في الكيان، بقرارٍ من أعلى هيئة قيادية للشعب الفلسطيني، من لجنتها التنفيذية ورئيسها، ومن مجلسها الوطني والمركزي، تسحب فيه اعترافها بالكيان الصهيوني، وتلغي اتفاقية أوسلو التي أسست لهذا القرار وسهلت إصداره، وتعيد تصنيف الكيان الصهيوني بأنه كيانٌ عنصري احتلالي استئصالي استيطاني، وأنه عدوٌ للشعب الفلسطيني، يقتلهم ويحتل أرضهم، ويصادر حقوقهم ويستولي على ممتلكاتهم، ويهدم بيوتهم ويطردهم من ديارهم، وأن مقاومته بكل أشكال المقاومة والنضال واجبٌ شرعي ووطني، وهو حقٌ تكفله القوانين والشرائع الدولية.
كما ينبغي على قادة الشعب الفلسطيني، قوىً وحركات ومنظمات وجبهاتٍ وفعالياتٍ وسلطة، أن تتقي الله سبحانه وتعالى في شعبها، وأن تكون صادقة معه ومخلصةً له، وألا تغدر به أو تخونه، أو تفرط في حقوقه وتتخلى عن أي جزءٍ من وطنه، وأن تتداعى إلى لقاءٍ وطنيٍ جامعٍ ومسؤول، على قاعدة الثوابت الوطنية، والبرامج المشتركة، والميثاق الأول، وأن تغلق على نفسها الأبواب، وتمنع أي طرفٍ من الخروج قبل الاتفاق، وأن تحول دون الخروج عن الإجماع الوطني، أو شق الصف الوطني برأيٍ يضر بالشعب الفلسطيني ويخالف ثوابته، وأن تتفق كلمتها وتتحد إرادتها في إطارٍ وطنيٍ واحدٍ، هو منظمة التحرير الأولى التي تضم الجميع، وتعبر عن الكل، وتنطق باسم الشعب وتمثله، ولكن بعد استعادة ميثاقها، وصيانة مؤسساتها، والتحاق الكل الوطني بها.
قرار الكنيست الإسرائيلي برفض الدولة الفلسطينية، هو إعلان نعيٍ واضحٍ وصريحٍ بموت مشروع حل الدولتين، وإن كان هذا النعي معروفاً سابقاً، لكن كنيست العدو يجدده اليوم ويلقي به في وجه المراهنين عليه والمتأملين فيه، الأمر الذي يفرض على كل المراهنين على حل الدولتين مواجهة الحقيقة، والاعتراف بالواقع، والكف عن خداع الشعب الفلسطيني وزرع الوهم في وعيه، والعودة إلى خيارات الشعب الفلسطيني الأصيلة، وإلا فإنهم أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الأوبة والتوبة والعودة إلى الشعب وثوابته التي قاتل في سبيلها، وضحى من أجلها، وهذا شرفٌ لهم يرفع قدرهم ويخلد ذكرهم، ويحققون به ما عجزوا عن تحقيقه سنين طويلة، وقد أثبت شعبهم أنه أصدق وأصبر، وأوعى وأفهم، وأدرى وأذرب.
أو التنحي والاستقالة، والنأي بالنفس عن كل منصبٍ ومركزٍ يخص الشعب، وتؤثر قراراته عليه وعلى مستقبله وأجياله في أرضه ووطنه، وليتركوا لهذا الشعب الذي اعتلوا ظهره عقوداً، وتحدثوا باسمه طويلاً، وشهدوا على مذابحه كثيراً، وأنتجوا الفشل تلو الفشل مراراً، واستمروا في مناصبهم بدعوى أنهم الأفضل والأقدر، وأنهم القيادة الملهمة الحكيمة الرشيدة.
ليتركوه يقرر مصيره بنفسه، ويختار قيادته بإرادته الحرة، ويغير الوجوه التي فقدت رصيدها وخسرت احترامها، ويستبدلها بآخرين صدقوا وضحوا، وأعطوا وأخلصوا، وليكفوا عن تضييع وقته، والاستخفاف بحقوقه والمقامرة بممتلكاته، ولينهوا مهزلة الحوارات واللقاءات التافهة التي أصبحت بلا معنى ولا قيمة، اللهم إلا السياحة والتجوال، والمكافئات والمشتريات، والتنقل بين العواصم والبلدان، بلا نتائج مرجوة، ولا قراراتٍ مسؤولة، أو خواتيم إيجابية مأمولة.