وجه نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى سماحة العلامة الشيخ علي الخطيب رسالة المولد النبوي الشريف من مقر المجلس التي قال فيها: بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ للهِ على سُبُوغِ نعمائِهِ وعظيمِ عطائِهِ وواسعِ رحمتهِ وتواترِ انبيائهِ ورسلِه، الذي خُتمَ بنبيهِ المصطفى ورسولِهِ المُجتبى الرحمةِ المهداةِ للعالمين (صلى الله عليه وآله وسلم)، بما اختصّهُ من اوصافٍ لم يَرقَ اليها أحدٌ مِمّن سبقَهُ، ولن يرقَ اليها أحدٌ مِمن لحقه، خليفةُ اللهِ الأوحدِ الذي سبقَ بوجودهِ خلقِ الكائنات، قالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: يا مَلائِكَتِي وَيا سُكَّانَ سَماواتِي، إنِّي ما خَلَقتُ سَماءً مَبنِيَّةً وَلا أرضاً مَدحِيَّةً وَلا قَمَراً مُنِيراً وَلا شَمساً مُضِيئَةً وَلا فَلَكاً يَدُورُ وَلا بَحراً يَجرِي وَلا فُلكاً يَسرِي إلاّ فِي مَحَبَّةِ هؤُلاءِ الخَمسَةِ الَّذِينَ هُم تَحتَ الكِساءِ.
فكان (صلى اللهُ عليه وآلهِ وسِلَّم) نوراً على عرشِ اللهِ قبلَ أنْ يَخْلقَ اللهُ الخلقَ، عن الإمامِ جعفرٍ بن محمّدٍ الصادقِ عن ابائه عن عليِّ بن أبي طالب (عليهم السلام) انّه قال: انّ اللهَ تبارك وتعالى خلقً نورَ محمّدٍ صلّى الله عليه وآلهِ قبلَ أنْ يخلقَ السماواتِ والأرضَ والعرشَ والكرسيَّ واللوحَ والقلَم.
ومثالًاً يقتدي بهِ الانبياءُ يُمثلُ صفاتِ اللهِ وخُلُقِهِ بما هو إنسانٌ وبقدرِه، فمِن صفاتِ اللهِ تعالى الرحمةُ فهو الرحمنُ الرحيم، وفي رسوله قال اللهُ تعالى (وما أرسلناكَ إلّا رحمةً للعالمين)، ومِن صفاتِه تعالى الرأفةُ (واللهُ رؤوفٌ بالعباد) وفيه قالَ تعالى (وهو بالمؤمنينَ رؤوفٌ رحيم)، وهو ذو الخُلُقِ العظيمِ كما وَصَفَهُ تعالى (وإنّك لعلى خُلُقٍ عظيم)، وقد وردَ فيهِ (كان خُلُقُهُ القرآن)، ومِن اسماءِ اللهِ تعالى السلامُ والنورُ والهادي الى الصراطِ المستقيمِ، وقد قال تعالى فيه(يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)، فهو مظهرُ صفاتِ اللهِ واسمائِهِ، وبهذا استحقَّ أنْ يكونَ خليفةَ اللهِ تعالى.
ايها المؤمنون أيتها المؤمنات..
لقد كانت ولادةُ رسولِ اللهِ (صلى اللهُ عليهِ وآلهِ) مظهرَ الرحمةِ الالهيةِ للعالمين، فبرسالتِهِ أخرجَ اللهُ الناسَ من الظلماتِ الى النورِ داعيًا لاتباعِ سُبُلِ السلامِ وإحقاقِ الحقِّ واعزازِهِ وإبطالِ الباطلِ وازهاقِهِ، والدعوةِ الى كلمةٍ سواء (تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُون)، في أرقَى سُبُلِ التّعايُشِ بين المُختلِفينَ عن طريقِ الحوارِ وحريةِ الاعتقادِ وعدمِ الاكراهِ ( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)، فدعا إلى إطلاقِ حركةِ العقلِ في التفكيرِ، وعدمِ الاتباعِ للهَوى (الذين يتفكرونَ في خَلْقِ السمواتِ والأرضِ)، والدعوةِ الى اكتسابِ العلمِ والمعرفةِ (إنما يَخشى اللهَ من عبادِهِ العلماءُ)، وذَمِ التقليدِ في الاعتقاداتِ ( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ)، والدعوةِ الى التسامحِ والغفرانِ ( وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)،
ودعا الى إقامةِ العدلِ وتطبيقِهِ مع الآخرِ (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ)، وحرَّمَ الظلمَ والعدوانَ وعاقبَ مرتكبيه (ولا تعتَدُوا إنّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعتدين) (والظالمينَ أعدَّ اللهُ لهُم عذابًا ألِيما).
ودعا الناسَ الى اتباعِ سُبُلِ السلامِ، (يهدي بهِ اللهُ من اتَّبَعَ رضوانَهُ سُبُلَ السَّلام)، وإلى غيرِها من التشريعاتِ الحضاريةِ التي طًبَّقَها رسولُ اللهِ كأفضلِ ما يكونُ التطبيقُ، وخطَّ للبشريةِ عن طريقِ الوحيِ القواعدَ التي تُؤَمِّنُ لهُم الكرامةَ والحياةَ الآمنةَ والهانئةً، عدا عن المفاهيمِ التي أسَّسَ لها أو أعطاها بُعدًا آخرَ، كمفهومِ الحقِّ والقوةِ والصبرِ والنصرِ والحياةِ والموتِ والبِرِّ والتقوى والعطاءِ والشهادةِ والثوابِ والعقابِ، وغيرها من المفاهيمِ التي تُعطي للحياةِ معنًى اكثرَ دِفئًا وحيويةً.
إننا وبهذهِ المناسبةِ العطرةِ لولادةِ رسولِ اللهِ (صلى اللهُ عليهِ وآلهِ) وحفيدِهِ الامام جعفر الصادق (ع) المُؤتمَنِ على حفظِ رسالتهِ شرحاً وبياناً وتبليغاً، وفي الوقتِ الذي نُجَدِّدُ التهنئة و التبريكَ للمسلمينَ ندعو الى التمسكِ بتعاليمِهِ ومنهجِهِ والتعمقِ في الكنوزِ المعرفيةِ والاخلاقيةِ الالهيةِ والانسانيةِ التي دعا اليها لخلاصِ البشريةِ ونجاتِها من المصيرِ المحتومِ ومما تتخبطُ فيه من الصراعاتُ وانعدامُ الأمنِ و العدالةٍ والانحرافاتِ الاخلاقيةِ. إن أعظمَ المظالِمِ التي تُرتَكَبُ اليومَ بحقِّ الانسانيةِ هو في ابتعادِها عن تعاليمِ الدينِ ومنهاجِ النبوةِ الخاتمةِ والقيمِ الالهيةِ، ومن هذه القيمِ الوحدةُ وعدمُ التفرقِ في الدينِ (إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)، وقد حذرنا اللهُ تعالى من التفرقِ في الدينِ، فقال: (ولا تفرقوا فتفشلوا)، (انّ الذين فرقوا دينَهم لستً منهم في شيء)، اي انّ رسولَهُ بريءٌ منهُم، وهو الداءُ الذي ابتلت به الامةُ فأُصيبَت بالوهنِ والضعفِ، وفي موضعِ البُعدِ عن اللهِ ورسولهِ، وما لم تُصحِّح هذا المسارَ فالفشلُ هو نصيبُها، ولن تكونَ في موضعِ الرضا من اللهِ ورسولهِ ابدًا، (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) .
لذلك، فانّ المسلمينَ و العربَ اليوم مدعوونَ للاستفادةِ من تجاربِهم السابقةِ التي أدّت الى الفشلِ في انتاجِ استراتيجيةٍ موحدةٍ تحفظُ لهم مصالحَهَم ووجودَهُم على مستوى التأثيرِ والمشاركةِ في رسمِ السياساتِ الدوليةِ، بل على العكسِ من ذلك فقد استضعِفوا وتشتًّت قواهُم الكبيرةُ، واستخدِموا في تحقيقِ مشاريعَ دوليةٍ تضرُّ بمصالحهِم وقضاياهم، وكانت القضيةُ الفلسطينيةُ والمقدساتُ الإسلاميةُ والمسيحيةُ في فلسطين والشعبُ الفلسطينيُّ أبرزَ ضحايا السياساتِ المتبعةِ، عدا ما تعرضت له الدولُ الإسلاميةُ والعربيةُ من فتنٍ قوميةٍ ومذهبيةٍ أدّت الى تدميرِ مقوماتِها فضلاً عن عدم تحقيقِ أي مصلحةٍ لأيِّ دولةٍ منها، او ان تسهمَ في انجازِ أي مصلحةٍ لقضيتهِم المركزيةِ وهي القضيةُ الفلسطينيةُ. وأدّى المسارُ الذي انتهجَهُ بعضُها والذي سُميَ بمسارِ السلامِ مع العدوِّ الى فشلٍ ذريعٍ، كان من نتائجِه المزيدَ من عذاباتِ الشعبِ الفلسطينيِ، والمزيدَ من قضمِ الأراضي الفلسطينيةِ وتهويدِها. وكان الاجدرُ بعد فشلِ المبادرةِ العربيةِ في قمةِ بيروت العودةَ عنها بدلًا مِن متابعةٍ هذا المسارِ، ودعمَ قوى المقاومةِ التي اثبتت جدارتًها وجدواها.
إنّ مِن حُسنِ المصادفةِ هذا العام ان تتزامنَ هذه الذكرى مع أنباءِ خضوعِ العدوِ الاسرائيلي لشروطِ لبنان في الحصولِ على حقهِ في المنطقةِ الاقتصاديةِ البحريةِ المحاذيةِ لحدودِ فلسطين المحتلة، والتي إنْ تحقّقً التوقيعُ عليها فبفضلِ وحدةِ المسؤولينَ اللبنانيينَ بدعمٍ من الغالبيةِ من الشعبٍ اللبنانيِ والمقاومة تشكلُّ إنتصاراً جديداً يُضافُ إلى الإنتصاراتِ السابقةِ يستحقُّ أن يحتفي اللبنانيونَ بهٍ، وانْ يتخلَّى البعضُ عن تنكرِهِ لهُ، والتقليلٍ من شأنِهِ كعادتِه في حساباتِهِ السياسيةِ الخاسرة.
كما نأمل أن ينسحبَ هذا الإنجازُ التاريخيُّ على مسارِ تأليفِ الحكومةِ، ويُفضي إلى انتخابِ رئيسٍ للجمهوريةِ في اقرب فرصةٍ حتى تكتملً فرحةُ اللبنانيين، ويتمكنوا من الاستفادةِ من هذه الفرصةِ لتحقيقٍ الاصلاحاتٍ الضروريةِ للنظامِ الهشِّ للخروجٍ من الوضعِ المأساويِ والانهيارِ المالي الذي وقعً لبنانُ فيه، وهو امرٌ ضروريٌ سواءً وَقَّعَ العدوُ على وثيقةِ هزيمتٍه أم لم يوقع، لأنّ تداعيات عدمِ التوقيعِ ستكونُ خطيرةً إن كابرَ العدوُ واقدمَ على استخراجِ الغازِ مِن خارجِ نطاقِ الوثيقة.
ومِن المفيدٍ ان يتواضعَ البعضُ في ارضاءِ الخارجِ باتهامِ قوى المقاومةِ بفرضِ سيطرتِها على الدولةٍ وتحميلِها تبعاتِ الانهيارِ وتفككِ وانحلالِ المؤسساتِ الدستوريةِ وتبرأةِ انفسهِم منها بخلفياتٍ وابعادٍ طائفية، بينما هم في المواقعِ التي تقتضي منهم الانصافَ وعدمَ الوقوعِ في شركِ بعضِ السياسيين ًوايحاءِ السفاراتِ.
)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً(
وفي الختامِ نجدد التبريكِ والتهنئةِ للبنانيين عموماً والمسلمين خصوصاً بهذه المناسبةِ على أنْ تتحققَ آمالهُم في الوحدةِ والتقدمٍ والإنتصار.
)الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِىَّ ٱلْأُمِّىَّ ٱلَّذِى يَجِدُونَهُۥ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلْأَغْلَٰلَ ٱلَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِىٓ أُنزِلَ مَعَهُۥ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ. (