“الأجير حين يرى الذئب مقبلًا يدع الخراف ويهرب” ( يو 10: 12)
1. المثلّث الرحمة المطران طانيوس الخوري، الذي نودّعه بشديد الأسى وصلاة الرجاء، كان لأبرشيّة صيدا العزيزة، على مثال المعلّم الإلهيّ يسوع المسيح، راعيًا صالحًا. ففي أحلك الظروف التي عاشتها الأبرشيّة من حرب وهدمٍ وقتل وتهجير واحتلالات، ظلّ صامدًا مع الكهنة والشعب، “فلم يهرب عندما كانت الذئاب تُقبل، ولم يدع الخراف يومًا فريسةً لها، لأنّه راعٍ صالح وليس بأجير” ( يو 10: 12).
لقد عاش ذروة هذا الواقع عندما كان قيّمًا للأبرشيّة ما بين 1975 و 1996، مع سلفه المثلّث الرحمة المطران إبراهيم الحلو، ونائبه العام المرحوم الخورأسقف يوحنّا الحلو. وقد شهدوا الإجتياحات والإعتداء عليهم في الكرسي الأسقفيّ بصيدا، وقتل أبنائهم وتهجيرهم وهدم كنائسهم وسلب بيوتهم وممتلكاتهم. فظلّ معهم معتصمًا بالصلاة ومسبحة الورديّة. وأكمل السير مع سلفه ومرحلة إعادة البناء، كراعٍ صالح ومدبّرٍ حكيم وأب محبّ وأسقف غيور طيلة سنوات أسقفيّته على الأبرشيّة من سنة 1996 إلى سنة 2006. فكانت عشر سنوات غنيّة بالعطاء.
2. حمل معه أسس ميزاته الروحيّة والكهنوتيّة والراعويّة من بيته الوالديّ، في صغبين العزيزة. فيه تربّى على الإيمان والصلاة وصخرة الرجاء على يد والديه المرحومين جبران يوسف جبران الخوري وماريّا إسبر الخوري، إلى جانب أربعة أشقّاء وثلاث شقيقات سبقته واحدة منهنّ هي المرحومة سيلين إلى دار الخلود، وهو كبيرهم. رأى في وجه عمّه المرحوم البرديوط جرجس جبران الخوري علامة جذّابة إلى الكهنوت، ولؤلؤة كهنوتيّة كان لها الأثر العميق في سماع النداء الإلهيّ إلى الرسالة المقدّسة وتلبيته بفرح والتزام.
3. دخل الشاب طانيوس المدرسة الإكليريكيّة تباعًا في مار عبدا هرهريا جديدة غزير، فعين ورقة بغوسطا، وأخيرًا في إكليريكيّة مار مارون غزير. ثمّ إنتقل إلى المعهد الشرقيّ في جامعة القدّيس يوسف، حيث درس الفلسفة واللاهوت وسيم كاهنًا في 14 حزيران 1958 حاملًا شهادة الإجازة في الفلسفة واللاهوت. وبعد خدمة راعويّة، أرسله البطريرك الكردينال مار أنطونيوس بطرس خريش، عندما كان مطرانًا لصيدا، إلى باريس للتخصّص في الحقّ القانونيّ في المعهد الكاثوليكيّ.
بفضل أصالة حياته الكهنوتيّة، إلى جانب مثل المرحوم عمّه، اجتذب بدوره شقيقه الخوري الياس إلى الكهنوت، وشقيقته الأخت ماري بولين إلى الحياة المكرّسة في جمعيّة راهبات مار يوسف دي ليون. وهكذا بدت عائلتهم ككنيسة بيتيّة بكلّ معنى الكلمة.
4. توزّعت خدمته الكهنوتيّة بين خدمة الرعايا في كلّ من سيّدة لبنان باريس، وعدد من رعايا أبرشية صيدا ساحلًا وجبلًا، ونذكر من بينها رعايا مار مارون-بيت الدين، والسيدة-المختارة، ومار انطونيوس الكبير – الفوارة، ومار الياس-بعذران، وبين إدارة إكليريكيّة مار مارون غزير، وقيّم عام في الأبرشيّة.
عاش في الوقت عينه مآسي التهجير، وخدم أبناء الأبرشيّة في جزّين طيلة محاصرتها، وإغلاق مداخلها، فكان أهاليها كفي سجن كبير، ما حدا بالبابا القدّيس يوحنّا بولس الثاني على إرسال موفد من قبله ليعايش شعبها، حتى فك الحصار، وذلك كعلامة لقربه منهم ولتضامنه معهم في مأساتهم.
5. كسب الكاهن طانيوس الخوري من تربيته المسيحيّة والكهنوتيّة أجمل الفضائل كالتقوى والنبل الأخلاقي وروح الصلاة والتفانيّ في العطاء والتواضع على رفعة والفرح الداخليّ والكلمة اللطيفة والإبتسامة المحبّبة. فانتخبه سينودس أساقفتنا مطرانًا لأبرشيّة صيدا، خلفًا للمثلّث الرحمة المطران إبراهيم الحلو، في دورة حزيران 1996. ومنحه البابا القدّيس يوحنّا بولس الثاني الشركة الكنسيّة، وتسلّم مقاليد الأبرشيّة في تشرين الأوّل من السنة نفسها.
6. فكان منه أن بدأ بورشة الإعمار. فوسّع دار المطرانيّة في صيدا من أجل تطوير العمل الإداري في الدائرة الأسقفيّة وتنظيمه. وأسس اللجان الراعويّة: لتنسيق التعليم المسيحيّ، وتعزيز راعويّة الزواج والعائلة مع مراكز لإعداد الزواج في ثلاث مناطق، ولتنسيق العمل الرسوليّ ومرشديّة الأخويّات والمنظّمات الرسوليّة ولتعزيز الدعوات الإكليريكيّة.
وقام بحملة تشجيع أبناء الأبرشيّة للعودة إلى بلداتهم وقراهم، والعمل على إعادة بناء الكنائس المتهدّمة، وترميم تلك المتضرّرة. فبلسم الجراح وأعاد دورة الحياة إلى سائر الرعايا، بتأمين كهنة لخدمتها. ونظّم مع المراجع السياسيّة في نطاق الأبرشيّة الزيارة التاريخيّة التي قام بها المثلّث الرحمة البطريرك الكردينال مار نصرالله بطرس صفير إلى الشوف ومنطقة جزّين في شهر آب 2001، وتمّت فيها رسميًّا مصالحة أبناء الجبل وإعادة اللحمة فيما بينهم على اختلاف إنتماءاتهم ومظاهرهم وإظهار حقيقة العيش المشترك.
7. وتعاون مع السادة المطارنة رؤساء الأبرشيّات الصيداويّة ومؤمنيها في الشهادة للإنجيل وتعزيز الإيمان المسيحيّ. وعزّز علاقات الصداقة والأخوّة مثل أسلافه مع المرجعيّات الإسلاميّة السنية والشيعية في صيدا العزيزة ومنطقتها، ومع مشايخ وقادة الإخوة الموحّدين الدروز في الشوف. فاحترمهم جميعًا وأحبّهم ومدّ إليهم يد التعاون، وسهر معهم على بناء مجتمع وطنيّ واحد يتأمّن فيه خير الجميع وخير كلّ إنسان.
8. وأولى الشأنين التربويّ والزراعيّ عناية خاصّة. فتربويًّا، أسّس مدارس وأعاد فتح بعضها ساحلًا وجبلًا، متعاونًا مع كهنة ورهبان وراهبات وعلمانيّين كفوئين. وزراعيًّا، بذل الجهد في إنماء ممتلكات المطرانيّة في مختلف المناطق.
9. إنّها عشر سنوات مملوءة بالنشاط المتنوّع، متكّلًا على مسبحة ورديّة العذراء التي لم تفارق يده. ولـمّا قدّم إستقالته من إدارة الأبرشيّة لبلوغه السنّ القانونيّة، تسلّم رعايتها سيادة أخينا المطران الياس نصّار، ومن بعده سيادة أخينا المطران مارون العمّار. عاش فترة من الزمن مع أهل بيته في صغبين العزيزة. ثمّ بدعوة منّا عاش معنا في دار مطرانيّة جبيل بعمشيت، ومن بعدها في الكرسي البطريركيّ-بكركي والديمان. فكان لنا مثالًا في التواضع والطيبة والصلاة والإلتزام بالواجبات الروحيّة الجمهوريّة. فأحببناه كلّنا مع المطارنة والآباء والراهبات في الكرسيّ البطريركيّ وجميع الموظفين. وها هم جميعًا يحزنون لفقده ويشاركوننا الصلاة لراحة نفسه.
10. وإذ نعرب عن تعازينا القلبيّة لإخواننا السادة المطارنة أعضاء السينودس المقدّس ولأخوينا صاحبي السيادة المطران مارون العمّار رئيس أساقفة صيدا، والمطران الياس نصّار راعيها السابق، ولكهنة الأبرشيّة وسائر أبنائها وبناتها، ولأشقائه وشقيقتيه وعائلاتهم، خاصّين منهم عزيزنا الخوري الياس خادم رعيّة صغبين حاليًّا، والأخت ماري بولين، ولأولاد عمّيه وعائلاتهم.
تقبّل الله الغنيّ بالرحمة في مجد السماء والمشاهدة السعيدة روح الأسقف المصوّر على مثال المسيح الربّ الراعي الصالح، وعوّض على كنيستنا “برعاة وفق قلبه” (إرميا 3: 5).
المسيح قام!