ادى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة في مقر المجلس والقى خطبة الجمعة التي قال فيها: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين وسيّد الخلق أجمعين وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين والشهداء والصالحين ورحمة الله وبركاته.
والسلام عليكم أيها الاخوة والاخوات المؤمنون والمؤمنات ورحمة الله وبركاته.
ورد في الكتاب العزيز في الحديث عن لسان نوح (ع) قوله تعالى: (قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ، أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) صدق الله العليّ العظيم.
وهذا نموذج من الآيات الكريمة التي تكرّرت على لسان الأنبياء (ع) مع أقوامهم في بيان الأهداف والغايات التي يسعون إليها ويعملون على تحقيقها وأنهم يحملون رسالة الهية لأقوامهم غايتها تحقيق مصالحهم الحقيقية التي تؤمّن لهم الحياة المستقرة والهانئة، وتوفّر عليهم الخوض في تجارب مكلفة لن توصلهم في نهاية المطاف الى ما يصبون إليه ويحلمون به والتي تنطلق غالباً من غايات فردية او فئوية وعنصرية تعتمد القوة سبيلاً لها، تُرتكب من أجلها المظالم وتُخاض من أجلها الحروب، وتدفع الإنسانية بها أثماناً غالية من عمرها وعمرانها وإنسانها، وهو ما يحكيه تاريخ الشعوب عبر الزمن المليء بالتجارب المُرّة من الصراعات والحروب التي دمّرت شعوباً وسفكت دماءً وارتُكب فيها مظالم رهيبة بحقّ الإنسانية التي تكرّرت معها تدمير ما تنجزه وتبنيه بعد كل فترة من الفترات التاريخية من عمر البشرية وتذهب فيها الجهود التي بُذلت أدراج الرياح.
وهو ما تحميه الكثير من سور القرآن الكريم عن أحوال الأمم الماضية التي لم تكن تصغي لكلمة الحقّ والنصيحة التي كان الأنبياء (ع) يمحضونها أقوامهم ومن أُرسلوا إليهم، ولا يجدون منهم إلا الصدّ أو المواجهة ومحاولة إسكاتهم، إما بالتشويش أو التشويه لدورهم ومطاردتهم وقتلهم كما حصل مع الأغلبية منهم الذين كانوا يُصرّحون بأنّ لا غاية ولا مصلحة دنيوية شخصية لهم، وإنما يقومون به ينطلق من خلفية أخلاقية وإصلاحية يصدقه الواقع حيث كانوا يتحمّلون المعاناة التي تنتهي بهم غالباً الى الشهادة.
والخلاصة أيها الاخوة والاخوات أن المشهد المتكرر دائماً في التاريخ وجود ثلاث فئات: الأولى هي الفئة التي تؤمن باستخدام القوة المادية للغلبة والسيطرة، والثانية هي الفئة التي تتمسّك بالقيم الإيمانية والأخلاقية وتدعو الى تحقيق العدالة وترى في استخدام القوة بهدف الغلبة والسيطرة ظلماً وعدواناً يجب مواجهتها والتصدي لها، والتي كان الأنبياء والأولياء دائماً على رأس القائمين بها.
والفئة الثالثة، هي العامة من الناس الذين تتنازعهم الفئتان وتنقسم بينهم وإن كانت الأغلبية منهم تقع دائماً في فخ التضليل وشراك القوى الطاغية نتيجة الضعف الثقافي أو ضعف الإرادة وعدم الاستعداد لدفع الثمن الذي يتطلبه هذا الموقف وهذه المواجهة.
وهذا هو المشهد المتكرر على مدى التاريخ على أنه لم يكتب أبداً الغلبة للقوة المادية بمجردها خالية عن التمسك بالقيم الأخلاقية بشكل دائم ومطلق الذي لم يكن سوى الزبد الذي يطفو على الماء سرعان ما ينتهي ولا يستقر، على خلاف قيم الحق والعدالة المبنية على القيم الأخلاقية والإيمانية التي يُكتب لها الانتصار وإن لم تكن تتكافئ مع قوى الباطل في موازين القوى الذي يكتب له البقاء والثبات حسب التعبير القرآني المعبّر عن هذا المشهد بقوله تعالى (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).
لقد كان تركيز الأنبياء (ع) والمصلحين على هذه الحقيقة في التصدي للمشكلات التي تواجهها مجتمعاتهم وأقوامهم وفي محاولات الإصلاح لما أسنده المتنفّذون والممسكون بقياد الناس، وأن الصلاح والفساد هو في القيم والمفاهيم التي يتبناها المجتمع ويبني حياته على أساسها وأن أعظم فساد هو في الخضوع لمقولة الاستناد إلى القوة المادية والخضوع لهذا المنطق الذي كان سبباً دائماً ومتكرراً للدمار والخراب الذي أصاب البشرية عبر تاريخها.
ولقد شهدنا عبر التاريخ المعاصر تجارب ونتائج مماثلة أدت إلى كوارث بشرية وعمرانية وإنسانية هائلة، وتطورت النظريات المادية لمعالجة هذه المشكلة وإيقاف الصراعات الدولية المدمرة إلى عامل الردع المتوازن بالاعتماد على امتلاك القوى المتصارعة الأسلحة الذرية وأشباهها المدمرة.
هذه النظريات وان حققت مؤقتاً هذا الهدف على مستوى الحروب المباشرة فيما بينها ولكنها فشلت في إيقاف الصراعات غير المباشرة وأدارتها هذه الصراعات بالواسطة ودفعت الشعوب الضعيفة أثماناً باهظة التي كانت منطقتنا العربية والإسلامية إحدى أهم ضحاياها، وكان الشعب اللبناني واحداً منها ، التي دفعت أثماناً كبيرة بسبب هذه السياسات الدولية الإجرامية جراء دخول هذه البلدان في سياسات المحاور الدولية ولم تبن لنفسها استراتيجية مستقلة تحميها من الوقوع في هذا المستنقع.
أيها الاخوة، إن مقولة حروب الآخرين على أرضنا التي يطلقها البعض كانت تصح في الماضي وأن مطلقيها هم صناعها وإن حاولوا تبرئة أنفسهم وتحميل غيرهم مسؤولياتها. ولكنها تصح اليوم فقط ويتحمل مسؤوليتها الأطراف الذين يربطون مصيرهم بمصير العدو الإسرائيلي ويتلقون التعليمات لمواجهة محاولة إخراج لبنان من صراع المحاور حقيقة بمواجهة العدو الإسرائيلي.
إن الذين يطلقون ان الواقعية تدعو إلى التسليم بوجود العدو الإسرائيلي هم الذين يعملون على إبقاء لبنان ضمن دائرة صراع المحاور، والذي يخرج لبنان من هذه الدائرة هو عدم التسليم لمنطق القوة الدولي يفرضه العدو الإسرائيلي كأمر واقع يجب الخضوع لإرادته، وإن مقاومة هذا المنطق ورفضه والعمل على مواجهته وهو ما تقوم به القوى المقاومة هو رفض لإدخال لبنان والمنطقة في نفق المحاور الذي يعني محور الغرب في مواجهة الشرق ويخلص المنطقة من النفوذ الأجنبي الذي ينهب خيراتها ويستخدمها في صراعاته الدولية.
هذا المنطق المستند إلى القيم الإلهية والإيمانية والإنسانية منطق النبوات الداعي إلى مواجهة الظلم وعدم الاستناد إلى قوى الظلام المستندة إلى القوة الغاشمة.
أيها الاخوة، إن المقاومة في لبنان جزء من المقاومة في المنطقة العربية في مواجهة العدو الإسرائيلي الذي هو رأس حربة محور الغرب الاستعماري الذي أدخل المنطقة العربية تحت نفوذه واستخدمه في صراعاته الدولية، وإني أستغرب تقييم الخطوة لبعض الدول النفطية الخليجية على أنه تمرد على الإرادة الأمريكية وإنما هو واقع في صميم هذه الإرادة وجزء في الصراع السياسي الداخلي الأمريكي بين الجمهوريين والديمقراطيين وليس قراراً لإخراج هذه الدول من سيطرة النفوذ الأمريكي لصالح إخراجها من صراعات المحاور الدولية.
لذلك إن أولى خطوات الإصلاح في لبنان والمنطقة العربية هو التحرر من الإملاءات الغربية التي تحرض على المقاومة وتعمل على محاصرتها وتأليب الحاضنة الشعبية ضدها وجرها للدخول في فتن طائفية داخلية وإقليمية استطاعت المقاومة حتى الآن الإفلات منها.
ولكن المخطط الجهنمي لم ينته، فالحصار الاقتصادي وضرب النقد الوطني ودولرته وتفريغ المؤسسات الدستورية أدوات خطيرة تُستخدم بلؤم في هذه المعركة.
و أحذر القوى التي تقف وراءها من الارتدادات الخطيرة لها ومن عواقبها ليس على بيئة المقاومة فقط ولا على الشعب اللبناني وحده وهذا ليس من باب التهديد وإنما من باب المثل الشعبي و الامثال تُضرب ولا تُقاس (إن الحية إذا ضُيق عليها عضت بطنها) و لن ينحصر ضرره على الداخل اللبناني فإذا كان أصحاب هذه السياسات الذين نسمع تصريحاتهم يأملون تفكيك مؤسسات الدولة أن يرتد الوضع على المقاومة فقد يكون الأمر معاكساً ولذلك فالطريق الأسهل هو الكف عن السير في هذا الطريق.