أصدر مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات ورقة علمية بعنوان: "مسارات المصالحة.. جذور الأزمة وبدائل التجربة"، وهي من إعداد الأستاذ ساري عرابي. وتأتي هذه الورقة في سياقات المصالحة بين الحركتين عموماً، وتحاول أن تقدم قراءة في أسباب استعصاء هذه المصالحة، في مساراتها الماضية، ومسارها الأخير، إلى حين الاتفاق على الذهاب إلى انتخابات، وذلك بالرغم من التحديات الخطيرة التي أحاطت بالقضية الفلسطينية أخيراً، ويُطرح في سياق هذه القراءة التساؤل عن الانتخابات إن كانت مدخلاً فاعلاً في إنجاز المصالحة وإنهاء الانقسام الفلسطيني.
وتعالج هذه القراءة جذور الأزمة، والمسارات التي سلكت لحلها، وتقرأ في أسباب فشل تلك المسارات، كما تعالج تفاهمات إسطنبول الأخيرة، وما تبعها لاحقاً من موافقة حركة حماس على إجراء انتخابات شاملة غير متزامنة، والاحتمالات المترتبة على ذلك. وقد خلص الباحث إلى ضرورة الاتفاق المسبق على برنامج وطني، نظراً لعدم إمكان التداول القيادي على السلطة دون حسم دورها الوظيفي، باعتبار أن جوهر الانقسام الفلسطيني هو في التباين البرامجي. وافترض الباحث أن يكون هذا البرنامج خطة انسحاب من مشروع التسوية، باعتباره قد وصل بالفلسطينيين إلى مآلات تهدّد قضيتهم بالتصفية مع تكبيلهم وتحطيم فاعليتهم، إلا أنّ حركة فتح، وبوصفها قيادة السلطة ومشروعها، لا تبدي إرادة مواجهة، بل تمسكاً بالمشروع مع محاولة تحسين بعض حيثياته.
وكأيّ نظام سياسي قائم، فإنه لا يحتمل التحول الجذري من داخله في سياساته، وتوجهاته، ووظائفه، وإنما تعالج الانتخابات مسألة تداول السلطة على النظام، وفسح المجال للبرامج المختلفة حول سطح النظام لا عمقه. ويزداد الأمر صعوبة في حالة السلطة الفلسطينية، لافتقادها الاستقلالية، وخضوعها لهيمنة الاحتلال، وارتباط تأسيسها واستمرارها بشرط وظيفي، ولذلك فإنّ الانتخابات، وعلى فرض إجرائها، لا يتوقع منها إنجاز مصالحة وطنية، إلا إذا التزمت حماس بشروط دمجها في النظام السياسي. في حين أنّ فتح مدعوة من الفاعلين السياسيين والمثقفين إلى إعادة النظر في مسار التسوية برمته، والدفع نحو سياسات جديدة منفصلة عنه، فإن حماس تجد نفسها إزاء هذا الانغلاق أمام أربعة خيارات:
الأول: أن تقبل بشروط الاندماج في السلطة، بالتخلي عن برنامجها، وهو أمر مستبعد لكن ينبغي التنبه إلى السعي الدائم على جرها إلى تلك الشروط.
الثاني: الصبر والانتظار إلى حين حصول تغير يخدمها، وهو رهان على المجهول، تتآكل في أثنائه القضية وتتكرس وقائع الاحتلال، بينما تغرق حماس في محاولات الإفلات من حصار غزة وفي حساباتها الداخلية التنظيمية التي لا تنعكس في فعل إيجابي على الواقع الفلسطيني العام.
الثالث: إبقاء الجسور ممدودة تجاه فتح، وتجنب التصعيد الداخلي قدر الإمكان، مع محاولة شقّ بدائل تستعيد المبادرة والفاعلية الفلسطينية، وتحول دون تآكل القدرات الفلسطينية، ودون استفراد الاحتلال أو مشروع التسوية أو موجات التطبيع بالمشهد، والتفكير والاشتغال خارج صندوق السلطة وإكراهات أوسلو. ومن تلك الأفكار السعي لبناء أجسام تمثيلية جديدة، والاستثمار في عناصر التثوير في القدس والضفة الغربية، ودعم صمود الفلسطينيين فيهما، مع الاستمرار في مراكمة قوة المقاومة في غزة، والاتفاق مع فصائل المقاومة على إدارة مشتركة للقطاع، وتعزيز العلاقات الإقليمية بما يخدم مشروع المقاومة.
الرابع: الذهاب إلى انتخابات تشريعية، بشروط الرئيس عباس، أي انتخابات شاملة غير متزامنة، وطالما أن الحركتين اتفقتا على هذا الخيار، فيمكن التوصية بما يلي:
أ. إنجاز اتفاق وطني، في الفترة الواقعة بين إصدار المراسيم، كما هو مفترض، وإجراء الانتخابات، يسعى للخروج من مسار التسوية، وبناء شراكة وطنية حقيقية.
ب. في حال أنجز هذا الاتفاق، فإن خوض الانتخابات في قائمة مشتركة، من شأنه أن يمنع الاستقطاب، ويعزز الوحدة المجتمعية، ويحلّ مشكلات حماس التنظيمية في الضفّة الغربية.
ج. أمّا وفي حال ذهبت الحركتان إلى انتخابات تشريعية، دون اتفاق وطني يتجاوز أوسلو، فالتوصية، بعد ذلك، بإعادة بناء منظمة التحرير، ومعالجة التباين البرامجي عبر المنظمة.
د. البدء بإزالة كل الإجراءات التمييزية على أساس سياسي أو مناطقي، والعمل على تهيئة الأجواء، والكفّ عن الممارسات المناقضة للديموقراطية.
وختم عرابي داعياً حركة حماس أن تستمر في محاولة تحسين ظروف الانتخابات، وفي الوقت نفسه السعي للعمل خارج إطار السلطة وأوسلو، وعدم حصر إمكانيات التغيير بالمصالحة مع حركة فتح. وتوقّع أن لا تحسم الانتخابات صراع الحركتين، سواء أُجريت الانتخابات أم لا، إذ أنه ثمّة عوامل متعددة تتحكم في إمكان إجراء هذه الانتخابات، مما يزيد في غموض الاحتمالات إزاء إجرائها، ولكن النتائج المترتبة على إجرائها أوضح من جهة مخاطرها السياسية في حال لم تتفق الحركتان، وضمن إطار وطني أوسع، على برنامج وطني، يقرّب فتح من خطّ المقاومة، ولا يقرّب حماس من خطّ التسوية.