"تقدّم النجم المجوس حتّى بلغ المكان حيث كان الطفل فوقف فوقه" (متى 2: 9)
1. رأى مجوس المشرق، وهم علماء الفلك الوثنيّون، إلتقاء الكواكب الثلاثة المشتري Jupiter، وزحل Saturne والمريّخ Mars بين السنة 7-6 قبل الميلاد، في فلك برج الأسماك. فاعتبر هذا التاريخ الزمن الّذي ولد فيه يسوع المسيح. قرأوا في الحدث الفلكيّ ولادة الملك الجديد في اليهوديّة. وانبثق من هذا الإلتقاء نجم اقتادهم، وفي قلوبهم توق داخليّ، إلى مكان ولادة هذا الملك الجديد في اليهوديّة، المسلّط على العالم، فكان المسيح الملك من نوع آخر ونهج آخر. لقد رأوا في لغة النجم رسالة رجاء، فحملوا معهم على عادة المشرقيّين هدايا: ذهبًا و مرًّا ولبانًا. وبهذا مثّلوا البشريّة السائرة عبر التاريخ نحو المسيح، ملك الملوك وسيّد السادة. أمّا هداياهم فكانت نبويّة: الذهب للمسيح الملك، والمرّ حنوط للمسيح الفادي، والبخور للمسيح الكاهن.
2. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيا الإلهيّة. فأحيّيكم جميعًا أيّها الحاضرون، مع تحيّة خاصّة اوجهها بغصّة وألم إلى الأحبّاء الآتين من الكحّالة التي يلفّها الحزن لإغتيال إبنها المرحوم جو بجّاني، فنحيّي زوجته نيلى وابنتيه آيا وتالا، ووالديه، جورج وأمال، ورئيس المجلس البلديّ جان بجّاني ومختار البلدة عبود ابي خليل. إنّ هذه الجريمة التي حصلت صباح الإثنين الماضي أمام منزله هزّت قلوب جميع اللبنانيّين وآلمتهم بحدّ ذاتها وبوقوعها على عتبة عيد الميلاد. فإنّا نشارك هذه العائلة الجريحة مصابها والصلاة، ونعبّر لها عن قربنا الروحيّ والعاطفيّ، ونحثّ مجددًا الأجهزة الأمنيّة التي تعمل بكلّ جهد على القبض على القتلة. إنّ الله الذي أمر في وصاياه "لا تقتل" ما زال يهزّ ضمائر القتلة ومَن وراءهم ويقول: "أين أخوك؟ إنّ دماءه تصرخ إليّ من الأرض" (تك 4: 10-11). فلا بدّ أن يكشف القضاء خيوط الإغتيالات الاخيرة المتتالية في صفوف المسيحيّين وفي بيوتهم وفي عقر دارهم. إنّنا نذكر في هذه الذبيحة المقدّسة المرحوم جو وعائلته، ملتمسين له السعادة الأبديّة في السماء، ولعائلته الجريحة العزاء. مرّة أخرى نطالب الدولة بضرورة حصر السلاح في مؤسّساتها العسكريّة والأمنيّة الدستوريّة.
ونرحّب بالوفد الآتي من حملايا، وفي مقدّمهم رئيس المجلس البلديّ، كما أحيّي رئيس بلديّة لبعا وعائلته، وكلّ الّذين يشاركوننا روحيًّا عبر وسائل الإتصال الإجتماعي وبخاصّة محطتي تلي لوميار-نور سات. صلاتنا أن يمنحنا المسيح الربّ، الشوق إليه، "مثلما يشتاق الأيّل إلى مجاري المياه" (مز 42: 1)، وأن نجعل من حياتنا مسيرة شخصيّة وجماعيّة نحو المسيح مخلّص العالم وفادي الإنسان.
3. نتعلّم من مجوس المشرق كيف نقرأ علامات الأزمنة، كما قرأوها هم من خلال حركة الكواكب والنجم الخاصّ الّذي سطع واقتادهم حتى بيت لحم. إنّ الحكمة الدينيّة والفلسفيّة كانت لهم قوّة دفعت بهم للسير في سفرٍ طويل باحثين عن نجم الخلاص الحقيقيّ. هذه الحكمة، بمفهومها الروحيّ، هي التي تقودنا إلى المسيح. فهي أولى مواهب الروح القدس، وتبلغ ذروتها في الموهبة الأخيرة: مخافة الله، التي تعني السهر الدائم على مرضاة الله، وتجنّب الإساءة إليه.
قرأوا،وصدّقوا، ومشوا بإيمان وشوق. هذه هي الروحانيّة المطلوبة منّا لكي نعيش العلاقة السعيدة مع الله.
ليس المجوس فقط فلكيّين، بل علماء، ويمثّلون ديناميّة السير إلى ما أبعد من الذات باحثين عن الحقيقة، وعن الإله الحقيقيّ. إنّهم يمثّلون سير الأديان نحو المسيح، وتخطّي العلم ذاته بغية البلوغ إلى الله. بهذا المعنى نقول أنّ هؤلاء الرجال هم سلفاء وسابقو البحّاثة عن الحقيقة التي تعني جميع الأزمان (راجع "طفولة يسوع" بندكتوس السادس عشر، بالإيطاليّة، صفحة 131-135).
4. وكما قرأ التقليد الكنسيّ وجود الحمار والثور بالقرب من طفل المذود إنطلاقًا من نبوءة أشعيا: "عرف الثور مالكه، والحمار معلف صاحبه" موبّخًا الله شعبه الّذي لم يعرف ولم يفهم" (أش 1: 3)، كذلك قرأ هدايا الذهب والبخور في مجيء المجوس من المشرق البعيد على ضوء نبوءة أشعيا: "كلّهم من شبأ يأتونك حاملين ذهبًا وبخورًا يبشّرون بتسابيح الربّ" (أش 60: 6)، كما على ضوء المزمور 72: 10، بالمعنى نفسه، حول الآتين من ترشيش والجزر. فرأى التقليد جامعيّة الممالك، والمجوس الثلاثة ملوكًا يمثّلون القارات الثلاث المعروفة آنذاك: أفريقيا وآسية وأوروبا. ولذلك يوجد دائمًا بينهم في مغارات الكنائس ملك بلون أسود. ذلك أنّ في مملكة يسوع المسيح لا يوجد تمييز عرقيّ أو إنتمائيّ. ففيه وبه، البشريّة في غنى التنوّع.
5. عندما غاب النجم عن المجوس في أورشليم، توجّهوا بالطبع إلى قصر الملك هيرودس، للسؤال عن "ملك اليهود الجديد الّذي وُلد" (متى 2: 2). هذه كانت فرصة ليرجع هيرودس إلى نفسه. ويتوقّف عن شروره ولكنّه ازداد اضطرابًا وخوفًا على عرشه. ولـمّا لم يعد المجوس إليه كما طلب "أصدر أمرًا بقتل جميع أطفال بيت لحم وجوارها من إبن سنتين فما دون" (متى 2: 16).
6. على ضوء هذه الأمور، نرى أنّ صورة هيرودس تتكرّر في المسؤولين، عندما يصمّون آذانهم عن سماع كلام الله، ويُغمضون عيونهم عن رؤية بؤس شعبنا، ويخافون على كراسيهم فيفقرون شبابنا الواعد ويرغمونه على الهجرة، ويفشّلون الباقين الصامدين على أرض الوطن، ويحكمون القبض على السلطة ومفاصلها.
وهذا ظاهر في تفشيلهم تشكيل الحكومة قبل عيد الميلاد. وجاءت فترة الأعياد فكانت الأعياد لهم مَهربًا للتَملُّصِ من متابعةِ الجهودِ لتأليفِ الحكومة، فيما كان يُفترض بجميعِ المسؤولين ألاّ يَتوانوا لحظةً واحدةً، عن بذلِ الجهودِ لتشكيلِها فيما بلادنا تُصارع الانهيار. من المؤسف أنّه لا يعنيهم أنّنا نعيش زمن الجُلجلةِ والحزن، في زمنِ الميلادِ والفرح. فيا ليت كبار المسؤولين يختلون بأنفسِهم ويَتذاكرون مع ضمائرهم، ويقيّمون مواقفَهم وخِياراتهم وأداءَهم، ويستخلصون العِبرَ الـمُنقِذةَ والقرارات الصائبة. وبهذا العمل يستعيدون القرارَ المصادَرَ ويَضعون حدًّا لكلِّ من يَرهِن مصيرَ لبنان بمصيرِ دولٍ أخرى. فالحليفُ هو من حالَف على الخير لا على تفشيلِ الحليفِ وتعطيلِ المؤسّسات والصلاحيّاتِ والقراراتِ الوطنيّةِ، ومنعِ قيام السلطة.
7. فيما أوجّه مع كلّ اللبنانيّين كلمة شكر إلى قداسة البابا فرنسيس على الرسالة التي وجّهها إلى اللبنانيّن ليلة عيد الميلاد، أدعو المسؤولين السياسيّين إلى الإتعاظ "بألمه العميق من جرّاء اختطافهم كلّ الآمال الغالية بالعيش بسلام، وببقاء لبنان، للتاريخ وللعالم، رسالة حريّة وشهادة للعيش الكريم معًا". كما أدعو هؤلاء المسؤولين إلى الإحساس "بشعوره العميق بهول الخسارة وبخاصّة عندما يفكّر بالشباب الّذين انتُزع منهم كلّ أمل بمستقبلٍ أفضل".
8. وإنّي أنذر جميع معرقلي تأليف الحكومة، من قريب أو من بعيد، بأنّهم يتحمّلون مسؤوليّة وضع جميع المؤسّساتِ الدستوريّةِ على مسارِ التعطيلِ، الواحدةِ تلو الأخرى، لأنَّ الدولةَ التي لا تَكتمِلُ مرجِعيّاتُها وتَتكامَلُ في ما بينَها تَسقُط بشكلٍ أو بآخَر. وإن كان ثمّة من يراهن على سقوطِ الدولةِ، فليعلم أنَّ هذا السقوطَ لن يفيدَه ولن يَفتحَ له طريقَ انتزاعِ الحكمَ، لأنَّ الانتصارَ على بعضِنا البعضِ مستحيلٌ بكلِّ المقاييس، ولأنَّ اللبنانيّين شعبٌ لا يَقبَلُ اصطناعَ دولةٍ لا تُشبِهُه ولا تشبه هُويّتَه وتاريخَه ومجتمعَه، ولا تُجسِّدُ تضحياتِ شهدائِه في سبيلِ الحرّيةِ والكرامة.
9. إندفاعًا منّا بدعوة البابا فرنسيس في رسالته "بالصمود كأرز لبنان بوجه العواصف، وبالتمسك بهويّتنا كشعب لا يترك بيوته وميراثه، ولا يتنازل عن حلم الّذين آمنوا بمستقبل بلد جميل ومزدهر"، سنعمل مجدّدًا مع المسؤولين على إعادة دفعِ عمليّةِ تأليفِ الحكومةِ إلى الأمام. هذا مطلبُ الشعبِ وحقُّه، وهذه مصلحةُ لبنان. إنَّ إنقاذَ لبنان سياسيًّا واقتصاديًّا وماليًّا لا يزالُ ممكنًا في حال تَـمَّ تشكيلُ حكومةٍ تَضُمُّ شخصيّاتٍ توحي الثقةَ بكفاءاتِها وسُمعتِها واستقلاليّتِها، لا أشخاصًا يُجفِّلُون الرأيَ العامّ ويُنفِّرون المجتمعَ الدوليّ.
10. ونختم بالدعاء الّذي أطلقه قداسة البابا فرنسيس يوم عيد الميلاد في رسالته إلى المدينة والعالم: " عسى أن يكون النجم،ـ الذي أضاء ليلة الميلاد، دليلًا ومصدرَ شجاعة للشعب اللبناني لكي، وبدعم المجتمع الدولي، لا يفقد الرجاء إزاء الصعوبات التي يواجهها. وليساعد أمير السلام قادة البلاد حتى يضعوا مصالحهم الخاصّة جانبًا ويلتزموا بجدّية وصدق وشفافيّة من أجل أن يمشي لبنان طريق الإصلاح، ويستمرّ في دعوته كنموذج للحرّية والتعايش السلمي". للثالوث القدوس الآب والابن والروح القدس كل مجد وتسبيح الآن والى الابد آمين.