لكي نَتمكّنَ من انتخابِ رئيسِ جُمهوريّةٍ لا يُشكِّلُ تحديًّا لأحدٍ يجب أن نختارَ مبدئيًّا رئيسًا من خارجِ المشروعَين السياسيّين اللذين يَشطُران لبنان ويُقسّمانِه عَمُوديًّا وأفْقيًّا. إذ أيُّ مرشَّحٍ حياديِّ يَملِكُ الشَجاعةَ والقُدرةَ على حكمِ الدولةِ اللبنانيّةِ ما لم يَتمّ التوافقُ عليه بين المشروعَين اللذين لا يلتقيان دون هزيمةِ أحدهما؟ في المنطقِ ذاتِه: “المرشَّحُ الحياديُّ” هو مرشَّحُ تحدٍ أيضًا، بحيثُ سيَعتَبره أركانُ المشروعَين تحدّيًا لهم ونُكْرانًا لصِفاتِـهم التمثيليّة. وإذا ما تراجعَ الرئيسُ الجديدُ عن موقعِه الحياديِّ والتَحَق بأحد المشروعين صار فريقًا، فهل يستطيعُ أن يَحكمَ البلادَ ضِدَّ المشروعِ الفارسيِّ/السوريِّ ذي الامتدادِ اللبنانيّ، أو ضِدَّ المشروعِ الخليجيٍّ/الأميركيِّ ذي الامتداد اللبناني كذلك؟ في هذه الحالةِ لا يعودُ هناك فرقٌ بين مرشَّحِ التحدي المختارِ أصلًا من أحدِ المشروعَين ومرشَّحِ “اللاتحدّي” الـمُنضوي لاحقًا إلى أحدِ المشروعَين.
الّذين يُطالبون، عن حسنِ نيّةٍ، برئيسٍ لا يُشكِّلُ بالمطلقِ تَحدّيًا لأحدٍ، يراهنون على بقاءِ الرئيسِ الجديد خارجَ المحاورِ وفوقَها ليكونَ عَرّابَ المصالحةِ الوطنيّةِ أكثرَ من رئيسِ الجمهوريّة. لكنَّ حَسَنيَّ النيّةِ فاتَهم أنْ لا مصالحةَ لبنانيّةً قبلَ مصالحةِ محاورِ الشرقِ الأوسط، أو بموازاتِها، أو قبل انسحابِ اللبنانيّين من المحاورِ الإقليميّةِ، أو حسمِ موازينِ القوى في ضوءِ نظامٍ عالَميٍّ يبحث عن استقرار بعدما أخْفقَ نظامُ ما بعدَ سقوطِ جِدارِ برلين (09 تشرين الثاني 1989). وما يُثيرُ المخاوفَ هو أنْ تؤثّــرَ تعقيداتُ الـمِنطـقةِ وحروبُـها وتسوياتُـها على الوضعِ اللبناني، لاسيّما أنها في مرحلةٍ جديدةٍ بدأت بارتباكِ مفاوضاتِ ڤيينا حولَ الـمَلفِ النوويّ الإيرانيِّ، بتَعثّرِ الهجومِ الروسيِّ في أوكرانيا وتهديدِ بوتين “باستعمالِ السلاحِ النوويِّ لحمايةِ شعبه”، بانتصارِ اليمينِ القوميِّ في إيطاليا، بزعزعةِ الوِحدةِ الأوروبيّةِ، بالانتفاضةِ النِسويّةِ الإيرانيّةِ ضد تَعسّفِ النظامِ بخاصةٍ ضّدَ المرأةِ هذه المرّة، بالاضطراباتِ المتجدّدةِ في العراق، باستدارةِ تركيا نحو إسرائيل وسوريا، بانتشار همجيّةِ طالبان في أفغانستان، وبنجاحِ التطبيعِ العربيِّ/الإسرائيليّ. لقد باتت مصالحةُ اليهودِ والمسلِمين سهلةً أكثرَ من مصالحةِ المسلمِين الفرس والمسلمِين العرب.
لا أعرِفُ ما إذا كان الرئيسُ نبيه بري أخذَ بالاعتبارِ هذه التحوّلاتِ الاستراتيجيّةَ في تَحرّكاتِه الأخيرة، لكنّي من هذه المعطياتِ الواسعةِ أنظرُ إلى إقدامِ الرئيسِ بِريّ على إقرارِ الموازنةِ (26 أيلول الجاري) عشيّةَ الاستحقاقِ الرئاسيِّ. إنّها رسالةُ نيّاتٍ إلى الغربِ والشرقِ مفادُها أنَّ وصولَ مارونيٍّ من مَعْشَرِ التحالفِ الثنائيِّ الشيعيِّ إلى رئاسةِ الجُمهوريّة لا يَـمنعُ لبنانَ من التجاوبِ مع مقترحاتِ صندوقِ النقدِ الدُولي ومن التعاونِ مع المجتمعِ الدُولي ومن التكيّفِ مع التحوّلاتِ الإقليميّةِ والعالميّة. لذا، ما إِن انتهى برّي من تقديمِ أوراقِ اعتمادِ الموازنة حتّى دعا مجلس النواب إلى جلسةِ انتخاب رئيسٍ للجُمهوريّة (29 أيلول 2022) ليرفعَ عنه مسؤوليّةَ تعطيلِ الاستحقاقِ، والتحضيرَ لشغورِ رئاسيٍّ وليَحتفِظَ بالمبادرةِ السياسيّةِ الرئاسيّةِ بين يدَيه.
غير أنَّ الثنانيَّ الشيعيَّ تجاهلَ أن جوهرَ مطالبِ المرجِعيّاتِ الدُوَليّة هو التزامُ لبنان بالقراراتِ الدُوليّةِ واحترامُ الدستورِ والنظامِ وتجديدُ الحياةِ الميثاقيّةِ بعيدًا عن السلاحِ غير الشرعي. فالأممُ المتّحدةُ والدولُ الكبرى والصديقةُ لا تُوفّر مناسبةً إلا وتُذكّرُ في بياناتِـها هذه الثوابت، وكان آخِرَها تعديلُ مُهمّةِ القوّاتِ الدُوليّةِ في الجنوب (31 آب 2022)، والبيانُ الثلاثيُّ الأميركيُّ/الفرنسيُّ/السعوديّ (21 أيلول 2022). لكنّنا كنا بغنى عن تصريحٍ وزيرِ خارجيّةِ السعودية فيصل بن فرحان الذي شدّدَ بعد البيانِ الرسميِّ على أن “السعوديّةَ تفضّل صَفقةً سيّئةً مع إيران حولَ الموضوعِ النوويِّ من عدم وجودِ صفقة” (24 أيلول 2022). فيا سعادةَ الوزيرِ المحترم، لا يليقُ أن تُسالمَ إيران في الخليج وتحاربَها في لبنان، وفيما الأعيانُ السنّةُ يحاولون توحيدَ الصفِّ برعايةِ سعادةِ السفيرِ السعوديِّ في لبنان الدكتور وليد البخاريّ.
واقعُ البلادِ يَستلزمُ رئيسًا لا يَستفِزُّ أحدًا، ولا يتحدّى أحدًا… لكنَّ إنقاذَ البلادِ يَستدعي رئيسًا يَتحدّى كلَّ من يُعطِّلُ الدستورَ ويُطيحُ الميثاقَ الوطنيَّ فيَضرِبُ صيغةَ الشراكةِ والمحبّة. إنقاذُ البلادِ يَستدعي رئيسًا يَضعُ حدًّا لحكوماتِ الوِحدةِ الوطنيّةِ الزائفةِ ويُحيي اللُعبةَ البرلمانيّةَ في النظامِ الديمقراطيِّ اللبناني. إنقاذُ البلادِ يَستدعي رئيسًا يرفض كلَّ سلاحٍ غيرِ شرعيٍ بما فيه سلاحُ حزب الله. إنقاذُ البلادِ يَستدعي رئيسًا يَتحدّى كلَّ من يتطاولُ على السيادةِ والاستقلالِ لئلا يُمسيَ لبنانُ دولةَ التبعيّةِ والاحتلال. إنقاذُ البلادِ يَستدعي رئيسًا يَتحدّى أولئك الَّذين يمنعون إغلاقَ الحدودِ السائبة بين لبنان وسوريا بقصدِ إبقاءِ علاقاتِ لبنان مع أصدقائِه منهارةً ومع أخصامِه مزدَهرة. إنقاذُ البلادِ يَستدعي رئيسًا يَتحدّى الدولَ التي تَعملُ على توطينِ اللاجئين الفِلسطينيّين والنازحين السوريّين. إنقاذُ البلادِ يَستدعي رئيسًا يَتحدّى جميعَ الشواذاتِ المنتشرةِ في الدولةِ اللبنانيّة ومؤسّساتِها ومجتمعِها الإنسانيّ. إذا لم يَستَفِز رئيسُ الجُمهوريّةِ الجديدُ جميعَ هذه الفئاتِ الخارجةِ على الشرعيّةِ، ويَتحَدَّ جميعَ هذه التجاوزات القاتلةِ، فسيَتحدّاه الجميعُ ويَستفِزُّونه. ليس لبنانُ بحاجةٍ إلى رئيسٍ يَستفِزُّ أو يُستَفَزُّ لئلّا نَدخلَ في دَوّامةِ صراعٍ مفتوحِ. لدينا فائضُ مرشَّحين يَستفِزّون ويُستَفزَّون، لكننا نشكو من غيابِ مرشّحِ إنقاذ، ومن غيابِ ظروفِ إنقاذ.
تعودُ هذه الإشكاليّةُ إلى اعتقادِ كلِّ صاحبِ مشروعٍ أنَّ مشروعَه هو طريقُ الخلاص، بينما خَلاصُ لبنان هو مُحصِّلةُ مختلفِ المشاريعِ التي تَلتزم الدستورَ والشرعيّةَ ولا تَخرِقُ سقفَ الحيادِ والتعايشِ والوَلاء للبنان فقط. أنْ تَحترمَ هذه المشاريعُ الدستورَ والشرعيةَ لا يمنعُ مطلقًا تحديثَ النظامِ اللبنانيِّ وتطويرَه في ضوءِ المتغيّراتِ الوطنيّةِ والإقليميّةِ والتباعدِ الحضاريِّ المستجِدِّ بين البيئاتِ اللبنانيّة. لكنَّ تحديثَ النظامِ يجب أن يَتمَّ بعيدًا عن أجواءِ هيمنةِ السلاح، وضِمنَ الأطرِ الديمقراطيّةِ وأصولِـها الدستوريّةِ، وبإشرافِ رئيسِ الجُمهوريّة الجديد. وقد تكونُ أُولى مُهمّاتِ رئيسِ الجُمهوريّة الإعدادَ لهذه الورشةِ السياسيّةِ والدُستوريَةِ، وخلقَ الأجواء المناسبة لإنجاحها. فغالبيّةُ الّذين يَسعَون إلى تحديث النظام يَتوقّعون إعادةَ توزيعِ الصلاحيّات الدستوريةِ والمناصبِ على هذا المكوِّنِ أو ذاك على حساب مكوّنات أُخرى، في حين أن الأنظمةَ تُحدِّثُ ذاتَها في سبيل بناءِ دولةِ عادلةٍ وقادرةٍ على تلبيةِ حاجاتِ الشعبِ بغضِّ النظرِ إلى أيِّ مُكوّن انتمَى.