ليس الغيابُ أن تغادرَ هذا العالم، بل أنْ يُغادرَك الناسُ، حيًّا كنتَ في عَجقةِ الحياةِ، أو ميتًا في سكينةِ ملكوتِ السماوات. الأُلفَةُ هي البقاءُ، والرِفقةُ هي الأزَلُ. ومراسِمُ الغيابِ، بالتالي، احتفالٌ مَجازِيٌّ لأخْذِ العلم. هذا المفهومُ يُعطي عبارةَ “بشير حيٌّ فينا” أبعادَها الفلسفيّةَ والوِجدانيّة. وبشير “الحيُّ فينا” صار بعدَ أربعينَ سنةً ذخيرةً وطنيّةً لكلِّ مُحبّيه؛ إليها يَتوجَّهون كلّما لاحَ خَطْبٌ أو جَفَّ نَبعُ القادةِ أو تاقوا إلى مجدٍ مَليح. لا يُصبحُ إنسانٌ ذخيرةَ شعبٍ، مهما كان مقامُه المدنيُّ أو الدينيُّ، ما لم يَتحَلَّ بالوفاءِ وفي حالٍ استثنائيّةٍ استوقَفَت التاريخَ فاصْطَفاها. والّذين يُتابعون التنقيبَ عن ظاهرةِ بشير الجميّل ليَحَسِموا موقفَهم منه، طبيعيٌّ أن يأخذوا وقتَهم، فتحديدُ موقِفٍ من العظماءِ جدليّةٌ تاريخيّةٌ لا تَستقرُّ إلّا بعدَ تفكيرٍ طويلٍ وعميق.
كان لهذه الذخيرةِ أن تَنموَ أكثرَ وتَنتشرَ في مختلَفِ البيئاتِ لو أنّ الّذين احتَضنوا ذكرى بشير الجميّل طَرحوا قضيّتَه من موقِعٍ وطنيٍّ يَتعدّى الحزبيّاتِ والطوائف، ولم يَحصِروا الرجلَ في المرحلةِ التي كان فيها فريقًا، وكانت مليئةً بذنوبِ الحربِ إلى جانبِ إنجازاتِ المقاومةِ العظيمة. فإذا شكّلَ بشير لأنصارِه المباشَرين مثالَ القائدِ المقاوِم، فشَكّلَ للعمومِ نَموذجَ الحاكمِ القويِّ والنزيهِ والإصلاحيِّ والشُجاع. كمُقاوِمٍ انتصَر على أخصامِه، وكحاكِمٍ مُنتخَبٍ انتصر على الفسادِ وغيّرَ ذِهنيّةَ المجتمع، ولو رَدْحًا من الزمن. كان التغييرُ جُزءًا تكوينيًّا في شخصيّةِ بشير الذاتيّة والوطنيّة. وكانت الكرامةُ مِعيارَ علاقتِه بالآخرين. آهٍ لو تَعلمون كَم سفراءَ دولٍ كبرى طردَهم بشير من مكتبِه لأنّهم طرحوا عليه تسوياتٍ على حسابِ لبنان.
لولا بشير الجميل لما تَحوّلَ صمودُ اللبنانيّين السياديّين “مقاومةً لبنانيّةً” منظَّمةً في هيكليّةٍ ثابتةٍ ومتطوّرةٍ وقادرةٍ على خوضِ جميعِ أنواعِ المعارك في كلِّ المواقع، منتَظِمةٍ في بُنيةٍ تحتيّةٍ عسكريّةٍ وسياسيّةٍ وديبلوماسيّةٍ وإعلاميّةٍ وثقافيّةٍ في لبنان والعالم. قبْلَ بشير الجميل كان المقاتلون في الأحزابِ السياديّةِ كُثرًا ومستعدّين للقتالِ والاستشهاد. لكنَّ الصمودَ ظلَّ نضالًا محليًّا مبَعثرًا في الأحياءِ وعلى خطوطِ التّماسِ ويعاني من فُقدانِ الإطارِ التنظيميِّ الشاملِ ومن القيادةِ العليا الموَحَّدةِ والموحِّدة.
خَرجَ بشير من المشهَدِ التقليديِّ ووضعَ حدًّا لجزُرِ النضال المتنافِسةِ، وأسّسَ “القوّاتِ اللبنانيّةَ” التي ضَمَّت تحت جناحَيها جميعَ القوى المقاتِلةِ في الأحزابِ والتنظيماتِ وهيئاتِ المجتمعِ الأهلي وضُبّاطًا وجنودًا من الجيشِ اللبنانيّ انتفضوا على دولةٍ امتنعَت عن القيامِ بواجباتِها في الدفاعِ عن الشعب. أطلق بشيرُ الجميّل المقاومةَ اللبنانيّةَ وعزّزها بالجَبهةِ اللبنانيّةِ والمجلسِ الحربيِّ ومركزِ الدراساتِ الاستراتيجيّةِ في جامعةِ الروحِ القدس – الكسليك، بالمؤسّساتِ الإعلاميِّةِ والهيئاتِ الشعبيّةِ ومكاتبِ التمثيلِ الخارجيِّ وجامعةِ المغتربين، بالاتّحادِ المارونيِّ العالميِّ واتّحادِ الأميركيّين/اللبنانيّين ومؤسّسةِ “غاما” لرجال الأعمال، وشبكةِ أصدقاء المقاومة التي ضَمّت النخبَ وكوادرَ أكاديميّةً في جامعات اليسوعيّةِ والأميركيّة والحِكمة، إلخ… كانت المقاومةُ اللبنانيّةُ مجتمعًا ونمطَ حياةٍ حضاريًّا.
ما يَنقُص لبنان اليومَ وجودُ المرجِعيّةِ المنقِذَةِ التي تقود شعبَ لبنان نحو مجدٍ جديدٍ غيرَ عابئةٍ بالثمن، إذ في الحالتين هناك ثَمنٌ سيُدفع. فلنَدفَع ثمنَ الإنقاذِ عوضَ أنْ نَدفعَ ثمنَ الانهيار. يحتاجُ مجتمعُنا اليومَ جَبهةً رائدةً أو حزبًا قويًّا أو قائدًا كاريسماتيًّا يُلمْلِمُ الناس الضائعين في الشوارع، والتائهين بين المشاريعِ المضادّةِ والحائرِين بين الاستسلامِ للأمرِ الواقعِ وبين سلوكِ طريقِ المقاومةِ كما فعلَ بشير الجميل في بداياتِ سبعينيّاتِ القرنِ الماضي.
مهما تحاشَينا خِيارَ المقاومة، فهو يُلاحقنا كحتميّةٍ تاريخيّةٍ في ظلِّ تعطيلِ جميعِ الحلولِ السياسيّةِ والدستوريّة. أخطرُ ما يَتعرض له شعبُنا اليومَ هو تردّدُه في اتخاذِ قرارِ المواجهةِ لاستعادةِ لبنانَ الكبيرِ بجغرافيّتِه أو لبنانَ الكبيرِ بتاريخه. لا أحدَ يَختار طريقَ المقاومةِ بطيبةِ خاطِر، خصوصًا، ونحن مؤمِنون بالديمقراطيّةِ والحوارِ والشَراكةِ الوطنيّة. لكنْ حين تُصَدُّ جميعُ منافذِ الحلولِ، لا بد من وَقفةٍ بشيريّة.
حَملَت المقاومةُ اللبنانيّةُ بقيادةِ بشير الجميل مشروعًا سياسيًّا للشعبِ والوطنِ إلى جانبِ مشروعِها العسكريِّ لحمايةِ المجتمع. هذه الخصوصيّةُ وفّرَت للمقاومةِ القُدرةَ على التكيّفِ مع مصيرِ لبنان من جهةٍ، ومع مصيرِ المجتمعِ المسيحيِّ من جهةٍ أخرى. هَدفُ بشيرُ الجميل هو بناءُ دولةٍ لبنانيّة حرةٍ ديمقراطيّةٍ موحَّدةٍ على أسُسِ التعدّديّةِ الحضاريّةِ. في مشروعِ تطويرِ نظام 1943، اقتصَر طرحُه على “وِحدةٍ لامركزيّةٍ تُحدّدُ الصلاحيّاتِ المركزيّةَ وتُوزّعُ المسؤوليّاتِ المناطقيّة، فتُسْهِمُ في تنفيسِ التناقضاتِ بين المكوّناتِ اللبنانيّة” (محاضرةٌ في نادي اليخوت ـــ الكسليك 05 آذار 1977). لكنّه، بعد انتخابِه رئيسًا سنة 1982، لم يَستبعِد بناءَ “حكمٍ مركزيٍّ قويٍّ” (بكفيا 02 أيلول 1982 ــــ إذاعةُ فرنسا الدوليّة).
إذا كان يوجدُ تمايزٌ دستوريٌّ بين طرحَي الرئيس بشير الجميل، فلا يوجد تَناقضٌ وطنيٌّ بينهما. فهو حين دعا إلى اللامركزيّةِ سنةَ 1977، كانت البلادُ منقسِمةً والاحتلالُ رابضًا على أرض لبنان والفرزُ الطائفيُّ في أوْجِه. أما حين راحَ الشعبُ اللبنانيُّ يَتوحّدُ تدريجًا حولَ لبنان، وبدأ كلُّ فريقٍ يرمي ولاءاتِه الخارجيّةَ في أول ساقيةٍ يَـمرُّ بها، انتَعشَت آمالُ بشير بــــ”الحكمِ المركزيّ القويّ”. بين هذين الطرحين، بَرزت في المجتمعِ المسيحيِّ نزعةٌ تَقضي بالحفاظِ على نمطِ الحياةِ الذي كان سائدًا في “المناطق الحرة” وبتحويلِ هذه المناطق نواةَ دولةٍ ذاتيّةٍ تُعطيَ الضماناتِ الأمنيّةَ الثابتةَ للمسيحيّين الّذين ضاقوا ذَرعًا آنذاك بِتَوَالي الحروبِ وجنوحِ مكوّناتٍ لبنانيّةٍ نحو تأييدِ كلِّ مشروعٍ غريبٍ على حسابِ الدولةِ اللبنانيّةِ والكيان، وحتى على حسابِ الجيشِ اللبنانيّ. وما شَجّع المسيحيّين على ذلك انتشارُ الإداراتِ الذاتيّةِ كالفُطرِ في مناطقَ أخرى.
لم تكن سهلةً خِياراتُ بشير الجميل السياسيّةُ والعسكريّةُ والدستوريّةُ. منذ القرنِ الثامنِ عشرِ، والجماعاتُ اللبنانيّةُ تَتساءلُ عن مصيرِها ولا تَستقرُّ على شكلٍّ كيانيٍّ ثابت. كلُّ عَقدٍ تسأل هذه الجماعاتُ نفسَها: أنحنُ هنا لنعيشَ في كِيانٍ موحَّدٍ، أم في كِيانٍ فِدراليٍّ، أم في كِيانٍ مقسَّم؟ والغريبُ أنّنا نَتنقَّل بين هذه الأشْكالِ الدستوريّةِ بدونِ أسفٍ على الشكلِ الراحلِ وبدونِ فرحٍ عظيمٍ حِيالَ الشكلِ الجديد. كنا دولةً موحَّدةً في إمارةِ الجبل، فانقَسَمْنا بِرَفّةِ عينٍ إلى قائمَقاميّتين. وبعد عشرين سنةً سَقطت القائمَقاميّتان ونَشأت المتصرفيّةُ. وبعد نحو خمسينَ سنةً تَمدّدت المتصرفيّةُ لتَشمَلَ الأطرافَ المسلوخةَ، فكان لبنانُ الكبير. وها هو لبنانُ الكبير يَترنَّح منذ سبعينَ سنةً بين الوِحدةِ والفدراليّةِ والتقسيم. سنةَ 1982 حاول الرئيس بشير الجميل حَسمَ وِحدةِ لبنان، فاستُشهد قبل إنجازِ حلمِه ومشروعِه. ومن يومِها عُدنا إلى ظلالِ الأسئلةِ من دون جوابٍ نهائيّ لأنّنا نَخشى الوطنَ النهائيَّ.