ادى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة في مقر المجلس والقى خطبة الجمعة التي قال فيها:بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّد المرسلين أبي القاسم محمد وعلى آله الطاهرين.
في ظل التحديات الهائلة التي نواجهها ويواجهها العالم المعاصر الذي افتقد في ظلّ الحضارة المادية الطاغية كل عناصر الأمان وأوصل المجتمعات البشرية الى مرحلة مصيرية وخطيرة غدا عاجزاً عن مواجهتها وابتداع الحلول الناجعة بالأساليب و استخدمت، مما يستدعي بل يتوجب علينا أن نَهُبَّ مُشمّرين عن سواعدنا وبما نمتلكه من كنوز الهية للكشف عنها وإخراجها للعالم لإنقاذه من مصيره المحتوم: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
إنّ القيم المعنوية والأخلاقية التي هي جوهر رسالة الإسلام والدين بشكل عام التي تنكّرت لها الحضارة المادية واستبدلتها بالقيم المادية الجافة حوّلت المجتمع البشري الى غابة وحشية لا عقل لها ولا قلب وخالية من الروح والحياة، وقد اجتاحت هذه الحضارة العالم الإسلامي وبدأت بالتأثير فيه بالعمل على نشر مفاهيمها وطبع الحياة فيه بطابعها، ساعدها على ذلك التخلّف والجهل الذي ساد فيه نتيجة الظروف التاريخية والاختلافات المذهبية والتعصّب الطائفي والمصالح الفئوية التي ارتبطت بالأنظمة الحاكمة التي استطاعت بشكل أو بأخر وبطرق غير نظيفة أن تبتدع مدارس باسم الدين تخلع عليها الشرعية الدينية وتحصّنها من أي انتقاد، بل وتنتزع الشرعية عن أي حركة تعارض سياستها وتُسمِها بالخارجة على الدين وتعطي الحق للسلطة بملاحقتها وسحقها حتى اذا تشظّت الدولة الواحدة الى دول أحاطت كل حكومة فيها مؤسسة دينية تفتي كل واحدة لها بما يناسبها وكثيراً ما تتعارض وتتصادم مصالح هذه الأنظمة الحاكمة في هذه الدول، فتتعارض الفتاوى بل وتتناقض حيث تُصدر الفتاوى لكل حكومة بما يناسبها وتسلب كل منها الشرعية عن الأخرى، مما أودى بالعالم الإسلامي الى هذه الكارثة وأخرجه من أن يكون له المشاركة الفاعلة في السياسات الدولية بل أكثر من ذلك إذ سلب أمكانية أن يكون له قرار في رسم سياساته الداخلية فضلاً عن المشاركة في السياسات الدولية، وأصبح بدلاً عن ذلك تابعاً للقوى العظمى التي تتناتشه وتعبث بحاضره ومستقبله، ففقد استقراره الداخلي وتحوّلت حياة شعوبه الى صراعات لا تنتهي وشُغِلت عن أن تنظّم حياتها حسب مصالح شعوبها، وترسم لها مستقبلاً بما يليق برسالتها التي أؤتمنت عليها. وهي أن تكون(خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه )، وبدلاً عن ذلك حدث ما أنبأنا الله تعالى به (ولا تفرقوا فتفشلوا)، بعد أن تركت صمّام الأمان الذي جعله الله لها وهو التمسك بالثقلين كما اوصاها نبيها (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي)، الذي ورد بتعبيرات شتى وهو ما اجتمعت عليها كلمة المسلمين وهي ليست وصية ارشادية وانما وظيفة الهية كان على المسلمين التمسك بها والعمل على أساسها ولكن للأسف حصل العكس، وعُمل على تأويل هذا النص بما يلائم الحاكمين وأُخرج أهل البيت (ع) من الحساب الذي أفسح المجال الى التلاعب بالكتاب وتفسيره بمشيئة النظام الحاكم.
إلا أن اهل البيت (ع) لم يخضعوا لهذه المشيئة وتابعوا القيام بوظيفتهم بكل قوة واقتدار واتبعوا في ذلك منهجين، الأول: هو منهج الدفاع عن الدين وبيان أحكامه وتفسير الكتاب كما هو الحقّ ووقفوا بوجه التشكيك في عقائده حيث ظهرت الزندقة والالحاد، وأبطلوا التأويلات والتفسيرات الخاطئة للكتاب والتشويهات التي تعرّض لها الدين وأحكامه، فقد قام بهذا الدور أئمة أهل البيت (ع) وخاصة الإمامين الباقر والصادق (ع) الذين خرّجوا من مدارسهم المئات من العلماء الذين تصدوا لمدرسة الزندقة والتشكيك، والثاني: منهج الدفاع عن سلامة الأمة والحفاظ على وحدتها ولم يدفعهم ما أرتُكب في حقهم من الخروج عن هذا المبدأ، وهو ما عبّر عنه أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (ع) : (لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن جور إلا عليّ خاصة)، مبرراً عدم شهره للسيف في وجه السلطة التي رأى أنها من حقّه ولا شكّ ان من أهم أمور المسلمين هو الحفاظ على وحدتهم في مواجهة المتربصين بهم من المنافقين الذين يشكلون الخطر الداخلي، والاعداء الذين يحيطون بالدولة من الخارج وهم الروم من الغرب والدولة الكسروية من الشرق.
إنّ اهل البيت (ع) في حركتهم لم يعملوا على تقسيم الامة وإنما كانت حركتهم هذه والتي استمرت حتى الامام الثاني عشر (عج) محكومة بسقف الوحدة للأمة، فلم يعملوا على انشاء وضعية انشقاقية داخل الامة او إنشاء كيان خاص بأتباعهم وإنما عملوا من ضمن الأمة الواحدة حتى في حركتهم المعارضة التي تعرّضوا فيها واتباعهم الى الملاحقة والقتل، سواء في المرحلة الاموية او العباسية وقد كان الإمام الحسن واحداً منهم الذي يصادف ذكرى اغتياله بالسمّ في السابع من شهر صفر الجاري، ونتقدم بهذه المناسبة الأليمة بالمواساة من سيدنا رسول الله (ص) وأهل بيته (ع) ومن محبيه وأتباعه، ولم يدفعهم ذلك الى الخروج عن هذا المبدأ، التي نشأت في اواخرالدولة العباسية كيانات شبه مستقلة ولكنها بقيت تحت مظلة الدولة الواحدة، كما حدث في الدولة الحمدانية التي نشأت في عصر الغيبة واستبسلت في مواجهة الروم حتى بدأت الدولة بالتضعضع والتفكك وسادت الحركات الطائفية المتعصبة وبدأ عصر الانحطاط للامة بعد أن دخلت في حروب داخلية لا تنتهي. كانت السمة البارزة فيها السمة الطائفية وعلا فيها صوت التكفير والعزل والابادة، انتهت بالأمة الى الانحطاط والضعف ووجدت الامة نفسها تحت سيطرة الاستعمار الغربي ومرحلة التجزئة الى دول وشبه دول وفُرض تقسيمها الى كيانات منفصلة ربطت بعدها بما يُسمى بالاستقلال روابط ضعيفة غير فاعلة بدا هزالها ظاهراً بعد انشاء الكيان الصهيوني على حساب الشعب الفلسطيني حيث لم تستطع ان تواجه هذا الكيان أو تعيد للشعب الفلسطيني حقه في أرضه وعودته من البلاد التي انتشر فيها بعد نكبته. لأن الأنظمة التي حكمت هذه الكيانات لم تجعل في رأس أولوياتها القضايا الاستراتيجية المشتركة وبدلاً عن ذلك كان اهتمام كل نظام من هذه الأنظمة بحفظ مصالحه الخاصة دون اكتراث لهذه الاولويات التي لم تكن سوى لقلقة لسان، وعلى العكس فقد دفعت مصالح هذه الأنظمة الخاصة قادتها الى تنفيذ سياسات الدول التي كانت تستعمرها لشعورها بالضعف وأنها دائماً مهددة من قبل هذه الدول إن لم تنفّذ إرادتها.
وقد كانت هذه المرحلة من أخطر المراحل التي مرّت بها الأمة الإسلامية حيث تولّت الأنظمة الحاكمة في هذه الكيانات تنفيذ أخطر مخطط استعماري لتقسيم الدول العربية المحيطة بالعدو الإسرائيلي لتضمن له السيطرة عليها وفرض التطبيع معه.
إن العودة للسياسة التي اتبعها اهل البيت (ع) في مواجهة سياسة التقسيم والعزل والطائفية التي هي أساس لهذه الحالة التي يعيشها العالم الإسلامي يستلزم اولاً: تقوية عوامل الوحدة وتدعيمها ومواجهة الطائفية والغلو وحركات التكفير، أي التعاون بين فرق المسلمين كافة على التوعية لمواجهة عوامل الفرقة والعمل على المشتركات وألا تكون الفوارق المذهبية عاملاً على التنازع والاختلاف ومانعاً من التوافق والتعاون والعيش بحرية وسلام، ثانياً: تقديم المصالح الاستراتيجية للعالم الإسلامي على المصالح الخاصة للأنظمة وهذا يحتاج الى عمل ممنهج لإيجاد تكتلات دينية وشعبية تتبنى هذه الاستراتيجية وتعمل على تحقيقها.
إنّ أهم ما تميزت به سياسة الجمهورية الإسلامية في إيران هو أنها اختارت تقديم المصالح الاستراتيجية للعالم الإسلامي على مصالحها الخاصة وهو ما بدا واضحاً في دعمها للشعب الفلسطيني ولم تأخذ في الاعتبار الموضوع المذهبي ولا مصالحها الخاصة التي تعرضت لضرر كبير بالحصار الذي فرضه الغرب بأقسى صورة وبشكل غير مسبوق أو تعريض أمنها الداخلي للخطر او بدفع بعض العملاء المرتبطين بها بشنّ حروب قذرة عليها استخدمت فيها أقذر الأسلحة والأساليب.
وكذلك في دعمها لحركات المقاومة ومواجهة الحركات التكفيرية في العراق أو سوريا أو لبنان، وفيما تقوم به من التقارب مع بعض الدول العربية وخصوصاً المملكة العربية السعودية الشقيقة متجاوزة كل الاعتبارات في سبيل وحدة المسلمين لمواجهة مخططات أعدائهم.
لقد كانت التجربة التي خاضتها المقاومة في لبنان رائدة في كيفية التعاطي مع قضايا الامة في مواجهة العدو الإسرائيلي وإخراجه من لبنان وتوجيه الامام موسى الصدر الأنظار الى الخطر الذي يشكّله الكيان الإرهابي الصهيوني على الأمة كلها، وبضرورة تكاتف كل القوى والطوائف والمكوّنات لمواجهة هذا الخطر ومواجهة دعاة الفتن الطائفية والتطرف والجهل والدَجَل الديني الذي سيتسع ويتمادى إن لم نتمسك بهذه الثوابت الكفيلة بإخراج الامة من هذا المستنقع. يقول تعالى في كنابه العزيز :(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) صدق الله العلي العظيم.ولبلوغ هذا الهدف فإن من الضروري الحفاظ على الوحدة الداخلية في كل بلد من بلدان العالم العربي والإسلامي والخروج من العقلية الحزبية والمنافع الفئوية وتقديم المصلحة العامة، فإنّ ذلك مقدمة ضرورية للوصول الى تبني قضايا استراتيجية مشتركة بين هذه الدول، ولذلك فإننا نناشد إخواننا في العراق بضرورة التفاهم وعدم تعريض وحدة العراق الداخلية الى الخطر لما لهذا البلد العزيز من أهمية استراتيجية وتأثير على الإقليم كله.
كما نتمنى أن ترتقي القوى السياسية اللبنانية الى مستوى المسؤولية التاريخية التي تتحملها في إنقاذ لبنان وشعبه وإخراجه من الحالة المأساوية التي يتحملون المسؤولية الكبرى في الوصول اليها التي تبدأ بتأليف حكومة جديدة كاملة الصلاحيات مقدمة لإنتخاب رئيس للجمهورية وإعطاء الشعب اللبناني الأمل بالمستقبل عوضاً عن الصورة القاتمة التي تُعطي له من أجل إشعاره باليأس.
لقد مضى الوقت الذي يحلم به العدو في أن يفرض على لبنان الاستسلام لإرادته والسير في ركب المطبّعين بعد كل هذه التضحيات التي قدّمها الشعب اللبناني في مواجهة العدو الإسرائيلي وإفشاله لهذه المؤامرة ووضوح الصورة في أن لبنان بإمكاناته الضئيلة ولكن بشعبه الكبير وجيشه الوطني ومقاومته الفذّة هزم إرادة العدو وأصبح قاب قوسين أو أدنى من فرض شروطه على العدو لإستنقاذ ثرواته البحرية، فلتكن القوى السياسية على مستوى المرحلة في التخلي عن الأنانيات الطائفية والمصالح الخاصة لمصلحة لبنان وشعبه. ولذلك فإننا نؤيد ما ورد في كلمة دولة الرئيس نبيه بري الحكيمة في ذكرى اختطاف الامام الصدر واخويه الشيخ محمد يعقوب والإعلامي عباس بدر الدين من خارطة طريق للخروج من الازمة التي تتفاقم يوماً بعد آخر فلتتكاتف الجهود مع دولة الرئيس رحمة بلبنان واللبنانيين.