ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بوصية الإمام الحسين(ع) عندما قال: “مَن رأى منكُم سُلطاناً جائِراً مُستحلاً لحرم الله، ناكثاً بعَهدِه، مُخالِفاً لسنّةِ رسولِ الله، يَعملُ في عبادِه بالإثمِ والعدوانِ، فلم يغِرْ عليهِ بقولٍ ولا بفعلٍ، كان حَقّاً على الله أن يُدخِله مَدخلَه”.
لقد أراد الإمام سلام الله عليه من خلال ذلك أن يلخص أهداف ثورته ومنطلقاتها، وليدعونا أن نكون غيورين على الحق والعدل، بأن نكون المصلحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، بأن لا نسكت على ظلم ظالم وفساد فاسد وانحراف منحرف، وأن نقف في وجه من يعتدي على حرمات الناس وحريتهم وكراماتهم ومن يسيء إلى قيمهم ومبادئهم.
وقد حذرنا من تداعيات هذا السكوت إن حصل فهو سيسمح للظالمين والفاسدين ودعاة الانحراف ومن يستبيحون العباد والبلاد أن يملكوا الحرية وسيزدادون فساداً وظلماً وطغياناً، ولن يقف الأمر عند ذلك بل سيمتد إلى موقفنا بين يدي الله حيث سيحملنا الله مسؤولية هذا السكوت وسنكتب عنده شركاء وأعواناً لهم وسيحشرنا حيث يحشرون…
إننا أحوج ما نكون إلى أصحاب المواقف العزيزة الذين لا يقفون على التل أو ينتظرون غيرهم حتى يقوموا بما عليهم، بل إلى من يتقدمون الصفوف… هؤلاء هم من يستحقون أن يكتبوا أنهم جمهور الحسين(ع) ومن الملبين نداءه، وبهؤلاء تحفظ القيم والمبادئ والحرمات والأوطان ونواجه التحديات…
والبداية من الوضع الاجتماعي الصعب الذي يعاني منه هذا البلد حيث تستمر أزمات الإنسان فيه على الصعيد المعيشي والحياتي وتزداد ضغوطها على الناس بفعل الارتفاع المتزايد في أسعار السلع والمواد الغذائية والمحروقات وكلفة الدواء والاستشفاء والكهرباء والماء والنقل، وهو ما أشار إليه تقرير “الإسكوا” التابعة لمنظمة
الأمم المتحدة والذي رأى أن لبنان هو الدولة الأغلى في ارتفاع الأسعار بين الدول العربية، والتوجه إلى رفع الدعم عن الطحين أسوة بالمواد الأخرى، ما سيجعل ربطة الخبز تتجاوز الأربعين ألف ليرة.
يأتي ذلك من دون أن يكون هناك أي جهود تبذل للجم هذا الارتفاع والحد من جشع التجار، أو بتحسين الرواتب لموظفي القطاع العام أو الخاص أو أي مساعدات تقدمها الدولة تساهم في التخفيف من الأعباء على العائلات الأشد فقراً والتي وعدت بها.
في هذا الوقت تستمر معاناة المودعين في ظل الحديث المتزايد عن ضياع جنى عمرهم وما ادخروه لوقت حاجتهم، وهو ما أشار إليه تقرير البنك الدولي حين تحدث عن عدم صدقية وعود السياسيين لإعادة أموالهم، وإن ما أشاعوه حول قدسية الودائع لا واقع له، ويصف التبريرات بأنها جوفاء وانتهازية وأنها لا تتعارض مع الوقائع فحسب، بل إنها تمنع إيجاد حلول لحماية معظم المودعين إن لم يكن كلهم.
وهنا نجدد دعوتنا باستمرار لرفع الصوت عالياً في وجه ناهبي ودائع الناس، ونؤكد دائماً هنا أن المسؤولية تقع على عاتق المصارف التي من واجبها أن ترد الأمانات التي أودعت عندهم، ولكن هذا لا يعفي الدولة بكل أجهزتها من المسؤولية لكونها طمأنت الناس لسلامة ودائعهم وهي الحامية لمواطنيها والكفيلة لودائعهم.
ومع الأسف، يجري كل ذلك من دون أن تستنفر الدولة جهودها لمواجهة كل هذا الانهيار ومنع التداعيات الكارثية التي قد تحصل من ورائه، حيث لا زلنا نرى من هم في مواقع المسؤولية يديرون ظهورهم لكل ما يجري لبلدهم وكأن الناس ليسوا ناسهم، فهم لا يكتفون بعدم التلاقي لمواجهة هذه المرحلة وتحدياتها وكيفية إخراج البلد من مآزقه حيث لا حكومة ويخشى أن لا رئيس جمهورية في الوقت القريب، بل يستمرون بتوجيه السهام لبعضهم البعض، ويشعلون البلد بصراعاتهم ويلقي كل طرف مسؤولية ما يجري على الطرف الآخر، فيما الكل في دائرة الاتهام ولو بنسب متفاوتة.
في هذا الوقت ينتظر لبنان ما ستؤول إليه المفاوضات التي تجري على صعيد ترسيم حدوده البحرية، فعلى رغم كل الإيجابيات التي نشهدها، فإننا نخشى من تسويف العدو ومناوراته التي يهدف من خلالها إلى الحصول على مكتسبات إضافية ومنع لبنان من الحصول على كامل حقه في ثروته، ما يتطلب إبقاء الجهوزية لمواجهة كل الاحتمالات والتأكيد دائماً للعدو ومن معه أن لبنان ليس ضعيفاً بل هو قوي في وحدته وقواه الحيّة وفي حقه بثروته..
وفي مجال آخر مرت علينا الذكرى السنوية الثانية للمرفأ والتي تعيدنا إلى تلك الكارثة التي ألمت بعاصمة هذا الوطن وأدت إلى خسائر جسيمة في الأرواح والبيوت والمؤسسات والآثار التي نتجت عن تدمير واحد من أهم المرافق والمعابر الحيوية لهذا البلد…
ومن هنا، فإننا نجدد دعوتنا إلى الاستمرار في وحدة الموقف اللبناني وعدم الخضوع لتهويلات العدو والمخاوف التي يطرحها…
إننا في هذه المناسبة الأليمة نجدد تعازينا لأهالي الضحايا والدعاء بالشفاء للمرضى، ونؤكد على ضرورة التعامل مع ما جرى بمسؤولية لعدم إبقاء هذا الجرح مفتوحاً وذلك بالخروج من سياسة تمييع الأمور على الصعيد القضائي والسياسي والإسراع في إيجاد كل السبل التي تضمن متابعة التحقيق وشفافيته وصدقيته وإبعاده عن كل التجاذبات السياسية لتقديم صورة واضحة للناس عما حصل والتي ينبغي أن تكون هي الهدف.
إن الوفاء للضحايا ولأهاليهم وللجراحات التي نزفت ولمنع تكرار ما حدث، لن يكون إلا بالإسراع بكشف من تسببوا بهذه الجريمة ومعاقبتهم.
ونبقى هنا لنؤكد للجميع؛ أن القضاء اللبناني هو قادر على الوصول إلى نتائج حاسمة إن سمح لهذا القضاء أن يكون عادلاً وشفافاً وآخذاً بموازين العدالة وبعيداً عن التسييس والتدخلات.
ونبقى على صعيد العراق لندعو القيادات العراقية أن تكون على مستوى المسؤولية التاريخية والوطنية للحفاظ على وحدة وطنهم واستقراره ومنع الأيادي التي تريد العبث به، وهذا لن يحصل إلا بفتح الأبواب لحوار جاد وموضوعي والذي يأخذ في الاعتبار مصلحة العراق ومصلحة شعبه ويؤمن استقرار هذا البلد الذي عانى وما زال يعاني سياسيا ًواقتصاديا وأمنياً، رغم كل القدرات والثروات التي يمتلكها.