عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي –
أحد لإبن الشاطر
بكركي – الاحد 7 آذار 2021
"فرجع إلى نفسه" (لو 15: 17)
1.لـمّا أنفق الولد الأصغر كلّ حصّته من ثروة أبيه، بالبذخ والطيش، أصبح فقيرًا جدًّا وراح يتوسّل من أحد أهل تلك المنطقة البعيدة رعاية الخنازير، لكي يقتات من الخروب الذي كانت الخنازير تسبقه على أكله. ولمّا تذكّر البحبوحة في بيته الوالديّ، وأدرك في أعماق نفسه الكرامة الإنسانيّة التّي خسرها، "رجع إلى نفسه" (لو 15: 17)، وقرّر العودة إلى أبيه للإعتراف بخطيئته والتماس المصالحة، وللتعويض عن كرامته المهدورة، طالبًا أن "يعامله كأحد أجرائه" (لو 15: 19).
الصوم الكبير هو زمن "الرجوع إلى الذات" والوقوف أمام الله، واكتشاف الأخطاء، والتماس المغفرة، واتخاذ مبادرات التعويض، كما فعل ذاك الإبن الضالّ. فما من أحد معصوم عن الخطأ والخطيئة. إنّ التائب الحقيقي يختبر أنّ محبّة الله ورحمته أكبر بكثير من خطاياه. فلنصلّ كي ننعم جميعنا بفرح المصالحة مع الله، ومع بعضنا البعض.
2. يسعدني أن أحيّيكم جميعًا وأن نواكب معًا بصلاتنا في هذه الليتورجيا الإلهيّة قداسة البابا فرنسيس في زيارته الرسوليّة التاريخيّة إلى العراق العزيز والجريح بمسيحيّيه ومسلميه. قداسة البابا يزور في هذا اليوم الثالث مدينة إربيل بإقليم كردستان، والموصل وسهل نينوى وقراقوش التي إجتاحها إرهاب داعش وطرد منها المسيحيّين وهدّم الكنائس والأديار وقتل وعذّب عددًا منهم. وقد زرناهم في أوائل أيّام تهجيرهم ولجوئهم إلى إربيل، وحملنا إليهم المساعدات الماليّة من محسنين ومن البطريركيّة. فكانت توصيتهم المحافظة على لبنان لأنّهم يرون فيه صخرة خلاصهم. فيا ليت اللبنانيّين، مسيحيّين ومسلمين ، يدركون هذه المسؤوليّة!
لا يأتي البابا فرنسيس إلى العراق ليعزِّزَ الوجودَ المسيحيَّ فيه وحسب، بل ليعزّزَ السلامَ الذي هو ضمانةُ الوجودِ الحرِّ لجميعِ مكوّنات العراق بمن فيهم المسيحيّون. و"السلامُ الضمانةُ" مبدأٌ يَنطبقُ على جميعِ المجتمعاتِ والدول. صحيحٌ أنَّ الاضطهادَّ في العراق طالَ المسلمين واليزيديّين مثلما طالَ المسيحيّين، لكن اضطهادَ الجماعات التكفيريّة والجهاديّة للمسيحيّين اتّخذ طابَعَ الإبادةِ. إنَّ مسيحيّي العراق عراقيّون منذ السنوات الأولى للمسيحيّة. ومن هناك انطلق التبشيرُ بالانجيل في بلادِ الرافدَين وبلادِ فارس وآسيا الصغرى. والكنيسة لا ترى شرقًا من دون المسيحيّة المؤسِّسةِ لحضارتِه والمتآلِفةِ مع الحضارة الإسلاميّة؛ ولا ترى وجودًا مسيحيًّا من دون الآخرين وعلى حساب الآخرين. لذلك ندعو الجماعة المسيحيّة أن تصمدَ في أرضِها، وتواجِهَ الإرهاب، وتَشهَدَ للقيمِ والحريّة وكرامةِ الإنسان.
وإنّنا نشكر الله على الثمار الوفيرة التي تؤتيها زيارة البابا فرنسيس النبويّة للعراق وشعبه عامّة، وللمسيحيّين خاصّة، ولشدّ أواصر الأخوّة الإنسانيّة بين المسيحيّة والإسلام.
3. في الذكرى الاربعين لوفاة شقيقي المرحوم شكري، إنّي أدعوكم أن تصلّوا معي ومع عائلة الحاضرة معنا. فإنّي باسمكم أجدّد التعازي للعائلة العزيزة، ومعكم نقدّم هذه الذبيحة الإلهيّة لراحة نفسه. حفظكم الله جميعًا، وأطال بأعماركم.
4.بالعودة إلى مثل الإبن الضال في الإنجيل، يعلّمنا الربّ يسوع ثلاثًا: الخطيئة ونتائجها، التوبة والندامة، المصالحة وثمارها.
أ- الخطيئة متمثّلة في ما ارتكب الإبن الأصغر تجاه أبيه والعائلة. إنّها تعلّق بعطايا الله ونسيانه هو المعطيها. وبالتالي هي إبتعاد عن الله وعن سماع كلامه، وعن الكنيسة وممارسة الأسرار وسائر الأفعال الليتورجيّة المقدّسة حاملة النعمة الإلهيّة التي تقدّس النفوس. أمّا نتائج الخطيئة فهي الإفتقار من القيم الروحيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة، وفقدان كرامة أبناء الله.
ب-التوبة تبدأ بالرجوع إلى الذات، إلى سماع صوت الله من خلال الضمير الذي هو صوت الله في أعماق الإنسان. لـمّا غاب الإبن الأصغر عن أبيه، فأبوه لم يغب عنه، وظلّ ينتظر عودته لإستعادة الحياة الكريمة في بحبوحة البيت، وكرامته الإنسانيّة المفقودة. هكذا التوبة هي عودة إلى الذات والوقوف في حضرة الله، فيكتشف التائب أخطاءه وفقدان كرامته كإبن لله، فيندم، ويقرّر العودة إلى الله من أجل الخروج من حالته المذرية الروحيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة، وينفّذ قراره.
ج-المصالحة هي جواب الله على توبة الخاطئ، تمامًا كما فعل أبو ذاك الإبن الضال العائد. فكان أبوه ينتظره بحنانه، وما إن رآه من بعيد حتى سارع وقبّله طويلًا ولم يشأ أن يسمع منه كلمات إعترافه وطلبَ إعتباره أجيرًا من أجل العدالة. إنّ رحمة الله تجاه التائب تتجاوز مقتضيات العدالة. فيُلبسه حلّة النعمة، ويضع في إصبعه خاتم عهد البنوّة، ويفتح أمامه طريقًا جديدًا. ويدعو إلى وليمة الفرح، وليمة جسد المسيح ودمه للحياة الإلهيّة فينا. فالخاطئ التائب "كان ميتًا فعاش وضالًا فوُجد" (لو 15: 32).
5. كلّ كلام الله نور يسطع على جميع جنبات حياتنا، لأنّنا بدونه نهيم في الظلام. عدم الإستنارة بالكلام الإلهيّ هو أساس كلّ الأزمات والخلافات سواء في العائلة أم في المجتمع أم في الدولة أم في الكنيسة. ذلك أنّ الإنسان يحجب عنه هذا النور الإلهيّ الذي ينير العقل والقلب والضمير. بدونه تطغى على الإنسان ظلمة مصالحه وحساباته الصغيرة وارتهاناته وأنانيّته وكبريائه.
لا تأتي مشكلة الإبن الضال، المتمثّل فيه كلّ إنسان يخطأ ويضلّ ويُخطئ، من كلام الله الموحى في كتبه المقدّسة، بل من مخالفته الكلام الإلهيّ. هكذا في لبنان: ليس اللبنانيّون في أزمةِ نظامٍ، بل في أزمةِ انتماءٍ إلى جوهر الفكرة اللبنانيّة. لو وَقعَت الأزماتُ بسببِ تطبيقِ الدستورِ لقُلنا إنها أزمةُ نظام، لكنّها وَقعَت بسببِ عِصيان النظام وصولًا إلى امتلاكِ الدولة والعبث بالوطن والمواطنين. إنّ ما يجري على صعيدِ تأليفِ الحكومةِ لأكبرُ دليل على ذلك، ولا علاقة له بالموادِّ الدستوريّةِ، لاسيّما المادتين 53 و 64 المتعلّقتين بطريقة التكليف والتشكيل والتوقيع، بل العلاقة بهويّة لبنان الواحد والموحِّد والحيادي والديمقراطيّ والميثاقي وذي السيادة في الداخل وتجاه الخارج، وبالثقة المتبادلة التي هي روح الميثاق الوطني والتعاون في الحكم والإدارة.
وإلا لمَ هذا التأخيرُ المتعمّدُ في تأليف الحكومة؟ لقد كنّا في مرحلةِ شروطٍ وشروطٍ مضادة، فصرنا في مرحلة تحديات وتحديات قاتلة تودي بالبلاد والشعب والكيان. لقد ترك لنا الآباءُ والأجدادُ هذه الأمّةَ اللبنانيةَ المترامية على شاطئِ المتوسط والمطلِّة على العمق العربي أمانةً للتواصل الثقافيّ والحضاريّ والإقتصادي بين شرق وغرب. الشعب ونحن لن ندعَ أحدًا يَستولي عليها عنوة ويُشوّهُها. لبنان بيت اللقاءِ يُدعى لا بيتَ التفرقة. فلأنّ الجماعة السياسيّة والسلطة عاجزة عن معالجة أزماتنا الداخليّة المؤدّية إلى الموت، دعونا إلى مؤتمرٍ دوليٍّ خاص بلبنان نهيّئه نحن اللبنانيّين كاشفين عللنا المتأتية من عدم تطبيق وثيقة الوفاق الوطني بكامل نصّها وبروحها، ومن مخالفات الدستور بخلق أعراف وعادات سببها ثغرات فيه بحاجة إلى نقاش، ومن ميثاق العيش المشترك الذي هو أساسس الثقة الوطنيّة وشرعيّة السلطة، كما تنصّ مقدّمة الدستور (ي).
6. لـمّا رجع ذاك الإبن الأصغر إلى نفسه ثمّ إلى دفء البيت الوالديّ، كانت فرحة المصالحة. تصالحوا أيّها المسؤولون مع السياسة، ومع الشعب الذي بدّدتم ماله وآماله ورميتموه في حالة الفقر والجوع والبطالة. وهي حالة لا دين لها ولا طائفة ولا حزب ولا منطقة، ولم يعد له سوى الشارع. فنزل يُطالبُ بحقوقِه، التي تَستَحِقُّ أن يُدافعَ عنها وأن توضعَ في رأسِ معاييرِ تأليفِ الحكومة. كيف لا يثورُ هذا الشعبُ وقد أخذ سعرُ صرفِ الدولار الواحد يتجاوز الــــ 10000 ليرة لبنانيّة بين ليلةٍ وضحاها؟ كيف لا يثور هذا الشعبُ وقد هَبطَ الحدُّ الأدنى للأجورِ إلى 70 دولاراً؟ كيف لا يثورُ هذا الشعبُ وقد فرغ جيبه من المال، ولا يستطيع شراءَ خبزِه والموادِّ الغذائيّةِ والدواء، وتأمينَ التعليم والطبابة؟ كنا نتطلّع إلى أن يصبحَ اللبنانيّون متساوين في البحبوحة، فإذا بالسلطة الفاشلةِ تساوي بينهم في الفَقر. كيف تعيش مؤسّساتٌ تتعثّر وتُقفَلُ، وكيف يعيش موظّفون يُسَرَّحون، ورواتبُ تُدفع محسومةً أو لا تدفع. وبعدُ، هناك من يتساءل لماذا ينفجرُ الشعب؟ من وراءه؟! فخيرٌ أن يَنفجِرَ الشعبُ ويبقى الوطن من أنْ يَنفجرَ الوطنُ ولا يبقى الشعب! لكنّنا باقون، والشعب أقوى من المعتدين على الوطن، مهما عظمت وسائلهم!
7. يا ربّ، إليك نكل وطننا، وهو أرض مقدّسة، ثقافتها المحبّة والتآخي والإنفتاح، لا ثقافة العداوة والحديد والنار. نلتمس منك بشفاعة قدّيسيه وسيّدة لبنان، حمايته وحماية شعبه، لكي يستمرّ في رفعِ المجد والتسبيح إليك، أيّها الآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين