كلمة سماحة العلامة السيد علي فضل الله في "حديث الجمعة" التي جاء فيها: عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بالأخذ بالصفة التي اتصف بها الإمام الكاظم(ع) وهي كظم الغيظ وعدم التصرف بوحي الغضب والانفعال مهما اشتد، والتي عبر عنها حين أبلغه بعض اصحابه أن رجلا في المدينة يسيء إليه(ع) وطلبوا منه الإذن لقتله، لكن الإمام(ع) رفض ذلك ودعاهم إلى الذهاب معه إلى مزرعته.
طبعاً، اعتقد أصحاب الإمام أنّه استجاب لرغبتهم، لذا جهّزوا أنفسهم للقتال، ولما وصلوا إلى مزرعة الرّجل، دخل الإمام إليه، ووقف أمامه قائلاً: لقد بلغني أنّك قلت فيَّ ما قلت، فإن كان ما قلته ليس فيَّ، فإنّي أدعو الله أن يغفر لك، ثم دخل الإمام معه في حوارٍ حول كلِّ الأخبار الّتي كان يسمعها عن الإمام(ع) وأهل بيته(ع)، فلم يخرج الإمام من عنده إلا وهذا الرّجل يقول: "الله أعلم حيث يجعل رسالته". وبعدما خرج الإمام من مزرعة الرّجل، التفت إلى أصحابه قائلاً لهم: "أيّما كان خيراً: ما أردتم أو ما أردت؟".
أيّها الأحبّة، لقد كان الإمام في هذه القصّة قادراً على أن يأمر أصحابه بقتل من أساء إليه وإلى أهل البيت(ع)، ولكنَّه كان يرى أنّ هذا الأسلوب ليس أسلوب الرّساليّين، بل هو أسلوب الانفعاليّين، فأسلوب الرّساليّين هو أن لا يقتل الآخر بل يقتل منه انحرافه وحقده والسّوء الّذي في قلبه.
إننا بحاجة إلى أن نعمّق هذه الرّوح في واقعنا، حتّى نستطيع بذلك أن نحول اعداءنا إلى أصدقاء ومن يشتموننا إلى دعاة كما نؤمن وبذلك نئد الفتن ونكون أكثر قدرة على مواجهة التحديات.
والبداية من لبنان الذي جاء ارتفاع سعر الدولار الأمريكي فيه إلى حد غير مسبوق ليفاقم من معاناة اللبنانيين ويترك آثاره الكارثية على الصعيد المعيشي والحياتي لما له من انعكاس مباشر على أسعار السلع والمواد الغذائية وعلى الدواء والاستشفاء..
لذا كان من الطبيعي أن نشهد ما شهدناه في الأيام الماضية، وسنشهده في الأيام القادمة من نزول الناس إلى الشوارع للتعبير عن احتجاجهم على هذا التردي الذي وصلوا إليه وعدم قدرتهم على تحمله رغم وعيهم التام لتبعات هذا النزول على الصعيد الصحي في ظل تفاقم أزمة كورونا أو على صعيد أمنهم والفوضى التي قد يتسبب بها، لكن لم يبق لهم سوى هذا الخيار في مواجهة طبقة سياسية كان لسياستها الاقتصادية والمالية والنقدية ولفسادها واستهتارها بمصالح المواطنين الدور الكبير في إيصالهم إلى هذا الانحدار والتردي.
لقد كنا نأمل مع كل اللبنانيين أن يكون ما جرى دافعاً للطبقة السياسية أن تعيد النظر في حساباتها وأن تتداعى فيما بينها للخروج من حالة المراوحة التي يعاني منها البلد والإسراع بتأليف حكومة قادرة على إيقاف النزف الذي لن يعالج بعد أن أصبح واضحاً أن لا مساعدات تأتي من الخارج إلا بتأليف حكومة إصلاحات..
ونحن في الوقت الذي نتحفظ فيه على أسلوب قطع الطرقات رغم تحسسنا لآلام الناس وأوجاعهم، ولكننا نستغرب عدم اكتراث هذه الطبقة السياسية واكتفائها بالتفرج على مشهد تقطع أوصال البلد بالدواليب المشتعلة، وبالدخان الأسود من دون أن يحركها كل ما يجري في الشارع، فهي تراهن أنه لن يكون سوى فورة غضب سرعان ما تتداعى أو بالإمكان تطويقها وبعثرتها وإدخالها في النفق الطائفي والمذهبي أو الأمني أو بخلق صراعات داخلها.. وأن اللبنانيين سيتعاملون مجدداً مع الأمر الواقع الجديد ويعتادون عليه ليعود كلٌّ إلى الالتزام بموقعه الطائفي أو السياسي ويسلم له.. ليبقى بعدها كلٌّ على مواقفه لا يريد أن يتقدم خطوة باتجاه الآخر، وكلٌّ يضع اللوم على الآخر في التعطيل..
إننا نقول لكل من هم في مواقع المسؤولية، أن رهانكم على هذا هو رهان خاسر، فهذا الشعب أصبح أكثر وعياً ولن تنطلي عليه هذه اللعبة، ولن يقبل باستمرار إذلاله لتأمين قوت يومه ودوائه، وحليب أطفاله أو وقوفه على أبواب المستشفيات يستجدي الاستشفاء.. أنكم قادرون على إخراجه من أزماته كلها إذا تخليتم مرة واحدة عن حساباتكم الخاصة ومصالحكم الفئوية ورهاناتكم الخارجية، وعاد كل منكم إلى إنسانيته، إلى القيم التي تنتمون إليها، ليتحسس آلام الناس من حوله، وفكرتم كما كان فكر علي(ع) عندما قال: "ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى، وأكباد حرى"..
ولا تكونوا كتلك التي قيل لها أن الشعب قد جاع، لا يجد خبزاً يأكله، فقالت لهم: فليأكلوا البسكويت..
ونبقى على الصعيد الداخلي، وفي ظل استمرار السجالات حول العديد من القضايا التي طرحت أخيراً، فإننا ندعو مجدداً إلى ضرورة الخروج من كل السجالات التي لا تؤدي إلا إلى مزيد من انقسام اللبنانيين وتوسع الهوة فيما بينهم، وترفع من منسوب الاحتقان لديهم، والعودة إلى لغة الحوار الموضوعي الهادئ الذي يبقى وحده هو السبيل لمعالجة الهواجس وحل المشكلات التي يعاني منها البلد، ويكتوي منها الجميع..
ونتوقف عند عادة الثأر المستشرية التي أدت وتؤدي إلى إزهاق نفوس بريئة، وأربكت وتربك أمن واستقرار حياة عائلات وعشائر لمجرد أن أحداً من أفرادها ارتكب جرماً أو هو في موقع الاتهام بذلك.. لندعو المواقع الدينية والاجتماعية والسياسية وكل سعاة الخير للعمل على منع استمرار هذه العادة وإيقاف نزيف الدم البريء، والعودة إلى لغة القانون والشرع.. ونذكّر هنا بما قاله أمير المؤمنين(ع) لبني عبد المطلب عندما ضربه ابن ملجم: "لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضا تقولون: قتل أمير المؤمنين، ألا لا تقتلن بي إلا قاتلي، انظروا إذا أنا
مت من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة، ولا يُمثّل بالرجل، فإني سمعت رسول الله(ص) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور"..
وأخيراً، تمرّ علينا في هذه الأيام عدة مناسبات، أوّلهما يوم المرأة العالمي، حيث نستعيد هذه المناسبة لنتوجَّه بالتّقدير إلى كلّ امرأة امتلكت الوعي، وخرجت لتشارك الرجل في بناء الحياة في الميادين الثقافيّة والتربويّة والاجتماعيّة والسّياسيّة، ولم تنسَ دورها الأساس في بناء جيلٍ واعٍ.. وندعو في هذه المناسبة إلى تعزيز دورها وحمايتها، من خلال تمكينها من كلّ القدرات الّتي تساعدها على أداء هذا الدّور، وعدم جعلها أسيرة الاهتمام بشكلها وجمالها.
ونؤكِّد على ضرورة إعادة النّظر بكلّ القوانين المجحفة بحقِّ المرأة، وعدم اعتماد سياسة التَّمييز الّتي جاء الإسلام ليلغيها.
كما نتوقف عند مناسبة عيد المعلم، لنهنِّئ المعلمين والمعلمات في عيدهم، ولنعبّر عن التقدير والشكر لدورهم في تنمية العقول، وتربية الأجيال، والنهوض بها لا سيما في هذه المرحلة في ظل وباء كورونا، حيث يصرون على أداء رسالتهم رغم أعبائها عليهم وعلى من حولهم..
إننا نغتنم هذه المناسبة، لنجدّد الدعوة إلى تكريمهم وإعزازهم، لأنّ من حقهم على أمتهم أن تكرّمهم، فلا بقاء لأمّة ولا نهوض لها إن لم تنهض بمعلّميها.
ونتوقّف أخيراً عند مجزرة بئر العبد الأليمة، التي تعيدنا إلى ذلك اليوم الذي أزهقت فيه أرواح بريئة، وسقط العشرات من الجرحى، ووقع الكثير من الدمار، حين كان الهدف منها إسكات صوت السيد فضل الله الموجِّه والمربِّي والملهم والباعث على الحياة في العقول والنفوس ومواجهته للاحتلال والظلم الداخلي والخارجي، بحيث أزعج السياسة الأميركيّة يومها وأرعبها، فقرّروا إسكاته، لكنهم فشلوا حينها، ليستمرّ السيّد في جهاده إلى أن اختاره الله إلى جواره.
إننا نستعيد هذه المناسبة، لنؤكّد الالتزام بهذا النهج الواعي والمنفتح والجريء في قول الحق والعمل به، مهما كانت التحديات والصعوبات وغلت الأثمان.