مركز الزيتونة يصدر ورقة علمية تدرس الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة قبل انضمام فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية وبعده
أصدر مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات ورقة علمية بعنوان: "دراسة مقارنة في الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة قبل انضمام فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية وبعد ذلك" للباحث الدكتور سعيد الدهشان.
فسعياً منه لمقارنة الاعتداءات الإسرائيلية تجاه المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة قبل وبعد سنة 2015، عمل الباحث على إعداد جداول للتحليل والمقارنة للاعتداءات الإسرائيلية من حيث أنواعها، وأهدافها، ونتائجها، حيث تغطي الدراسة عشر سنوات مقسّمة إلى فترتين متساويتين؛ من أجل المقارنة بينهما، وهي خمس سنوات قبل سنة 2015 (2010-2014)، مقابل خمس سنوات بعدها (2015-2019)، وتمّ تحديد ثلاثة مجالات للمقارنة بينها وهي: الضحايا والهجمات ولأهداف المصابة.
وقد وجد الباحث من خلال نتائج الإحصائيات والمقارنة بينها، بأن هناك تراجعاً كبيراً في أعداد القتلى؛ فمن 2,730 في الفترة الأولى تراجعت إلى 436 في الفترة الثانية، فيما كانت نسبة القتلى من السيدات والأطفال إلى بقية القتلى تمثل 34.4% لتتراجع إلى 21.6%. وعند مقارنة نسبة القتلى إلى الجرحى في كل فترة تبيّن أنها كانت بتناسب 51 جريحاً مقابل كلّ 10 قتلى، لترتفع بشكل كبير وتصبح 508 جريحاً مقابل كل 10 قتلى.
ومن جانب آخر فقد تراجعت أعداد الهجمات على قطاع غزة من 17,365 لتصبح 3,705، ورافق ذلك تراجعاً نوعياً في القصف الجوي والمدفعي، فمن 15,025 هجوم في الفترة الأولى، أصبح 599 في الفترة الثانية، كما تراجعت نسبة القصف الجوي والمدفعي إلى بقية أنواع الهجمات، فقد كانت تمثّل 86.5% لتصبح 16.1%. ومن ناحية ثالثة فقد تراجعت أعداد الأهداف المصابة من 59,155 لتصبح 23,464، كما توقف جيش الاحتلال عن استهداف أهداف معينة، مثل استهداف السيارات والدراجات النارية، بالإضافة إلى استهداف المنازل السكنية، بينما زاد في أخرى، مثل استهداف المتظاهرين السلميين، وكلّ ذلك يؤكّد بأن "إسرائيل" قد غّيرت من حجم ونوعية اعتداءاتها تجاه قطاع غزة، بعد انضمام فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية في سنة 2015، فقد تراجعت الاعتداءات عددياً، وتغيرت نوعياً.
وخلص الباحث إلى أنه وبالرغم من أهمية انضمام فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية كعامل مهم ومؤثر في حجم ونوعية الاعتداءات الإسرائيلية تجاه قطاع غزة، إلا أنه يتفق مع الرأي القائل بأن السلوك العسكري الإسرائيلي يتأثر بعدة عوامل وليس عاملاً واحداً، والتي قد تسهم بدرجة أو بأخرى في التأثير بفتح المجال لمزيد من الاعتداءات أو بالتضييق والدفع لتراجع حجم وطبيعة تلك الاعتداءات.
ومن خلال المراقبة والتحليل يمكن تحديد أربعة أنواع رئيسية من العوامل التي يمكن أن تسهم بدرجة أو بأخرى في التأثير على حجم ونوعية الاعتداءات الإسرائيلية بشكل عام، والحديث هنا عن التأثير ذو الأثر الممتد وليس اللحظي أو الذي تتطلبه ظروف عملياتية طارئة، والأنواع هي: العوامل الداخلية الإسرائيلية والعوامل الفلسطينية والعوامل الإقليمية والعوامل الدولية.
ويندرج تحت كل واحد منها عدد من العوامل المؤثرة، وإذا نظرنا في اتجاه التأثير لهذه العوامل على طبيعة الاعتداءات فهي مختلفة في الاتجاه، فبعضها يدفع نحو مزيد من الاعتداءات وأخرى تدفع لتقليص الاعتداءات. والسؤال الأهم: ما الذي تغير من هذه العوامل في فترة الدراسة الثانية ولم يكن في الفترة الأولى؟ وبالتالي تسبب بهذا التراجع العددي والنوعي في الاعتداءات الاسرائيلية؟
لا يتسع المقام لتحليل كل واحد من هذه العوامل على حدى، ولكن بالمجمل معظم تلك العوامل توفر بيئة مناسبة لمزيد من العدوان على غزة، فمن العوامل الداخلية الإسرائيلية مثلاً طبيعة الائتلاف الحكومي الإسرائيلي، وشخصية وزير الدفاع، واقتراب مواعيد الانتخابات، ومن العوامل الفلسطينية حالة الانقسام الفلسطيني، ومن العوامل الإقليمية تصاعد الثورات المضادة للربيع العربي، ومن العوامل الدولية مستوى دعم الإدارة الأمريكية، فكلها تسمح بزيادة الاعتداءات. كما أن هناك عوامل بقيت كما هي في الفترتين، مثل تأثير المنظمات الدولية. ولكن في الاتجاه الآخر، هناك عوامل تؤثر في تراجع الاعتداءات، مثل تصاعد قوة الردع لدى المقاومة الفلسطينية، وحرص القيادة الإسرائيلية على تمرير مشروع التطبيع مع الدول العربية، الذي قد يتطلب تقليل حدة التوتر مع غزة، والتي قد تعمل بجانب تأثير انضمام فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية، ولكن برأي الباحث وإن تداخلت عدة عوامل في تقليل وتراجع الاعتداءات على قطاع غزة، فإن انضمام فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية هو العامل الأهم، بدليل التغيرات النوعية التي تكيفت فيها القيادة العسكرية الإسرائيلية مع شروط ومواد جرائم الحرب المعتمدة لدى المحكمة الجنائية الدولية، وليست تغيرات عددية، على الرغم من دلالتها الكبيرة، وهذه بعض الأدلة التي يراها الباحث أنها نوع من ذاك التكيف:
1. جاء التراجع الكبير في أعداد الهجمات بالأسلحة الثقيلة بتناسب 96% إلى 4% مصحوباً بتراجع نوعي لصالح الأسلحة الخفيفة، فمن كل 100 هجوم في الفترة الأولى كان 87 هجوماً بالأسلحة الثقيلة، لتتراجع في الفترة الثانية لتصبح 16 هجوماً فقط بالأسلحة الثقيلة من بين كل 100 هجوم. وهذا ربما يكون تكيفاً مع المادة 8/2/أ/4 من نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية الذي تجرّم "تعمد شن هجوم … يكون إفراطه واضحاً بالقياس إلى مجمل المكاسب العسكرية المتوقعة الملموسة المباشرة". وكذلك المادة 8/2/ب/20، والتي تحرّم "استخدام أسلحة أو قذائف… تسبب بطبيعتها أضراراً زائدة أو آلاماً لا لزوم لها".
2. توقفت قوات الاحتلال عن استهدافها للسيارات المدنية والدراجات النارية؛ من 1,311 في الفترة الأولى أصبحت فقط 4 في الفترة الثانية، وقريب من ذلك تراجع استهداف المنازل والمنشآت المدنية لتصبح 1% فقط مما كانت عليه في الفترة الأولى. وهذا ربما يكون تكيفاً مع المادة 8/2/ب/5 التي تحرّم "مهاجمة أو قصف المدن أو القرى أو المساكن… التي لا تكون أهدافاً عسكرية بأية وسيلة كانت"، والمادة 8/2/ب/24 التي "تجرّم تعمد توجيه هجمات ضدّ المباني والمواد والوحدات الطبية ووسائل النقل".
3. التراجع النوعي في أعداد القتلى من السيدات والأطفال نسبة إلى بقية القتلى، من 34.4% إلى 21.6% في الفترة الثانية. مع العلم بأن هاتين الفئتين (السيدات والأطفال) هما من أكثر الفئات المحمية وفقاً لاتفاقيات القانون الدولي لحقوق الإنسان، و"إسرائيل" دولة طرف في تلك الاتفاقيات.
ومن ناحية ثانية قد يقول قائل بأن الفترة الأولى قد شملت حربين بخلاف الفترة الثانية، وهو الذي تسبب في هذا الارتفاع الملحوظ في أعداد الهجمات والضحايا في الفترة الثانية، وعلينا قبل الإجابة على ذلك بأن نوضح بأن مصطلح "حرب" الوارد في هذه الورقة هو استخدام مجازي لما يغلب عند القراء، والحقيقة أنه وفقاً للقانون الدولي فقطاع غزة والضفة الغربية في "حالة الحرب" مستمرة منذ 5/6/1967، وحتى الآن. أما المصطلح الأدق لما حدث في السنوات 2008 و2012 و2014 فهو "هجوم عسكري شامل"، ثم إن وقوع هجومين عسكريين شاملين في فترة الدراسة الأولى وعدم حدوث مثلها في الثانية يصب في نتيجة هذه الدراسة، وهي بأن "إسرائيل" استخدمت الهجمات العسكرية الشاملة وكذلك المحدودة في الفترة الأولى، بينما اقتصرت في الفترة الثانية على استخدام الهجمات المحدودة فقط، وكلها تعد اعتداءات وفقاً للقانون الدولي.
ويُستنتج من الإحصائيات السابقة بما لا يدع مجالاً للشك؛ بأن "إسرائيل" قد غيرت من حجم ونوعية اعتداءاتها على قطاع غزة، وذلك وفقاً لبيانات فترتي الدراسة، فقد أوضحت البيانات بشكل قاطع أن السنوات 2015-2019 شهدت تراجعاً كبيراً في أعداد القتلى الفلسطينيين، وتراجعت أيضاً نسبة القتلى من النساء والأطفال، كما تراجعت أعداد الهجمات الإسرائيلية العسكرية على قطاع غزة بشكل كبير، وبالذات الهجمات بالأسلحة الثقيلة من القصف الجوي والمدفعي، كما تراجع عدد الأهداف التي قصدتها قوات الجيش الإسرائيلي بشكل كبير، وبالذات استهداف المنازل، والمنشآت المدنية، وكذلك توقف قصف السيارات المدنية شبه كلياً.
وعليه يمكن القول بأن هذا مؤشر قوي على وجود تغيرات جوهرية في السلوك العسكري الإسرائيلي تجاه قطاع غزة بعد انضمام فلسطين لميثاق روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية، ومع الإقرار بأنه ليس العامل الوحيد، إلا أنه العامل الأهم برأي الباحث بدليل التغيرات النوعية كما أسلفنا، وأن الاعتداءات قد تراجعت عددياً وتغيرت نوعياً، والإحصائيات السابقة خير دليل.